الوقفة الأولى: أيها الصحيح
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ»، لماذا كان مغبونًا؟! لأنه لم يستفد من صحته وفراغه بما يقربه إلى الله والدار الآخرة.
ولذا أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم باستغلال الصحة والاستفادة منها قبل أن يأتي ضدها، فقال: «اغتنم خمسًا قبل خمس. ثم ذكر منها: وصحتك قبل سقمك...» الحديث.
أيها الصحيح:- هذه الصحة والعافية سوف تسأل عنها يوم القيامة، وفي الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «لن تزولا قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع، ثم ذكر منها: وعن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه...» الحديث، فاجعل هذه الصحة والعافية عونًا لك على طاعة الله.
أيها الصحيح: إذا أردت أن تعرف قدر الصحة والعافية فأكثر من زيادة المرضى في المنازل والمستشفيات... ولذلك قيل: إن الصحة تاج على رءوس الأصحاء لا يعرفها إلا المرضى، كم من مريض يتمنى أن يخطو بقدميه ليصلي الفريضة مع الجماعة ويصل أرحامه ويزور إخوانه! ولكنه لا يستطيع!!
كم من مريض انقطع عن الناس فهو لا يسمع ولا ينطق يتمنى سماع القرآن وترتيل آياته، ولكنه لا يستطيع!!
كم من مريض كف بصره، فهو يتمنى أن يرى مخلوقات الله وآياته، وكم من مريض يتمنى أن يأكل الطعام ويشرب الشراب ولكنه لا يستطيع، وكم من مريض لا تسكن أوجاعه، ولا يرتاح في منامه.. وغيرهم كثير!!
أيها الصحيح: هل نسيت هؤلاء! فاتق الله في صحتك وعافيتك واشكر الله على نعمة القدمين واستخدمها في الذهاب والإياب للمساجد ولكل خير، واشكر الله على نعمة اللسان وأكثر فيه من تلاوة القرآن، وتذكر قوله صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت».
واشكر الله على نعمة السمع، واحفظه عن سماع الأغاني والموسيقى، واشكر الله على نعمة العينين فلا تنظر بهما إلى النساء في الشاشات أو على صفحات المجلات أو في الأسواق، وتذكر وأنت ترى بأن الله يرى، وقد أمرك بغض بصرك فقال: }قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ{ [النور: 30]، ثم أمر النساء بقوله: }وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فَرُوجَهُنَّ{ [النور: 31].
أيها الصحيح: هذا هو الشكر الحقيقي لله على نعمة الجوارح مع استخدامها في طاعة الله، تذكر وأنت تجاهد نفسك على شكر الله في جوارحك كلها أن الله يحفظها عليك ويمتعك بها سنوات طويلة، ويوفقك سبحانه وتعالى لاستخدامها فيما يرضيه.
وفي الحديث القدسي أن الرب تبارك وتعالى قال: «ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه...» الحديث.
والمعني: أي وفق الله جوارحك لفعل الخيرات ومتعك بها سنوات عديدة. يروى أن أحد الصالحين بلغ من العمر سبعين سنة وكانت جوارحه سليمة، فلما سئل عن ذلك قال: هذه جوارح حفظناها في الصغر على طاعة الله فحفظها الله علينا في الكبر.
أيها الصحيح: اسأل نفسك هل شكرت الله على نعمة الجوارح شكرًا حقيقيًّا، فاستخدمتها في طاعة الله، وكففتها عن معصيته؛ فالشكر الحقيقي عمل بالجوارح، كما أنه إقرار بالقلب ونطق باللسان.
قال تعالى: }اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ{ [سبأ: 13]. وقد قام الرسول صلى الله عليه وسلم يتهجد بالليل حتى تورمت قدماه، فقالت له عائشة رضي الله عنها، لم تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فقال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا». فأوصيك أيها الصحيح أن تشكر الله على سلامة هذه الجوارح قبل أن تسلب منك بحادث أو مرض، فتكون عقوبة عاجلة على عدم شكر الله.
قال الله تعالى: }وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ{. [إبراهيم: 7].
أيها الأصحاء: لا يخفى عليكم ونحن الآن نتمتع الصحة والعافية، إلا أن البعض منا يعاني من بعض الأمراض العضوية الخفيفة؛ كآلام الظهر، والقدمين، والمفاصل، أو مرض في المعدة، أو الجهاز التنفسي، أو صداع في الرأس، أو وجع في العينين، أو الأسنان، أو يعاني من بعض الأمراض النفسية؛ كالهم، والغم، والحزن، والقلق؛ بسبب مشاكل الحياة داخل المنزل أو خارجه، مشاكل مع الزوجة، أو الأولاد، أو الوظيفة، أو الكفيل، أو عدم الحصول على زوجة، أو وظيفة، أو عليه ديون لا يستطيع سدادها، أو غير ذلك. إذًا لا يخلو الكثير منا من شيء من الأمراض العضوية أو النفسية.
أيها الأصحاء والمرضى: لقد انتشرت الأمراض وكثرت في هذا الزمن، ظهرت الأورام والأمراض المستعصية كالسرطان (الذي يسميه البعض بالمرض الخبيث، ولا ينبغي تسميته بالمرض الخبيث؛ لأنه من الله)، وقد نبه على ذلك بعض العلماء، وانتشر مرض الضغط، والسكر، والفشل الكلوي، والشلل، واستئصال بعض الأعضاء الصغيرة أو الكبيرة، وكثرة حوادث السيارات؛ مما نتجت عنه الإعاقات من بعض الأعضاء، ولقلة الإيمان وكثرة المعاصي فقد كثرت أمراض العين وهو الحسد، وأمراض السحر ومس الجان، والأمراض النفسية المتعددة مع أمراض كبر السن والشيخوخة؛ مما جعل المستشفيات تكثر وتعددت أنواعها، وتمتلئ بالمرضى؛ بل لا أبالغ إذا قلت: إن الكثير من البيوت لا تخلو من مريض، ونحن جميعًا معرضون للمرض بين عشية وضحاها.
أيها الأصحاء والمرضى: تذكروا أن أعمارنا في هذه الدنيا قصيرة كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وقليل من يتجاوز ذلك»، ولا خير أصلاً في طول العمل إلا إذا كان على طاعة الله.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «خيركم من طال عمره وحسن عمله، وشركم من طال عمره وساء عمله»، وقد استعاذ عليه الصلاة والسلام أن يرد إلى أرذل العمر.
أيها الأصحاء والمرضى: تذكروا أن الدنيا دار ابتلاء وامتحان، ولهذا فهي مليئة بالمصائب والأكدار والأحزان والأمراض والحوادث؛ قال تعالى: }وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ{ [البقرة: 155]، وقال: }لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ{ [البلد: 3]. اعلموا أن الجزع لا يفيد؛ بل يضاعف المصيبة ويفوت الأجر ويعرض المصائب للإثم؛ قال علي بن أبي طالب: «إن صبرت جرت عليك المقادير وأنت مأجور، وإن جزعت جرت عليك المقادير وأنت مأزور».
وقال بعضهم: المصيبة للصابر واحدة وللجازع اثنتان. ولهذا نوصي كل من أصيب بمصيبة في نفسه أو والده أو ولده أو زوجته أن يلزم الصبر؛ فإنه إذا تسلى بالصبر يحصل على حلاوة الإيمان؛ قال تعالى: }مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ{ [التغابن: 11]؛ يقول علقمة في تفسير هذه الآية: هو الرجل تصيبه المصيب فيعلم أنها من الله فيرضى ويسلم، فيعوضه الله إيمانًا يجد حلاوته في قلبه، ويحصل على معية الله }إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ{ [البقرة: 153]، ويحصل على محبة الله }وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ{ [آل عمران: 146]، ويحصل على الأجر بغير حساب }إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ{ [الزمر: 10]. قال الأوزاعي على هذه الآية: «ليس يوزن لهم ولا يكال؛ إنما يغرف لهم غرفًا».
ويحصل أيضًا على ثناء الله له ورحمته وهدايته للصابر كما قال سبحانه وتعالى: }وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ{ [البقرة: 155-157].
قال بعض السلف- وقد عزي على مصيبة نالته: مالي لا أصبر وقد وعدني الله على الصبر ثلاث خصال كل خصلة منها خير من الدنيا وما عليها، يعني الخصال المذكورة في هذه الآية، وهي صلاة الله، ورحمته، وهدايته للصابرين.
ولقد مدح الله نبيه أيوب عليه السلام بقوله: }إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ{ [ص: 44]. ويروى أنه لما أصيب عروة بن الزبير بالآكلة في رجله وفي نفس اليوم سقط أحد أبنائه فمات، فقال عليه رحمة الله: اللهم كان لي بنون سبعة فأخذت واحدًا وأبقيت ستة، وكان لي أطراف أربعة فأخذت طرفًا وأبقيت ثلاثة، ولئن ابتليتَ فقد عافيتَ، ولئن أخذتَ لقد أبقيتَ، ثم نظر إلى رجله في الطست بعدما قطعت فقال: إن الله يعلم أني ما مشيت بكِ إلى معصية قط، وأنا أعلم.
ويروى أن الفضيل بن عياض رحمه الله كانت له بنت صغيرة فمرض كفها فسألها يومًا: يا بنية كيف حال كفك؟ فقالت: يا أبت بخير، والله لئن كان الله تعالى ابتلى مني قليلاً فلقد عافى الله مني كثيرًا؛ ابتلى كفي وعافى سائر بدني، فله الحمد على ذلك.
وعلى المصاب بنفسه أو قريبه أن يردد دائمًا قوله عز وجل: }إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ{. [البقرة: 156]، ويلزم الصبر حتى يحصل على الثمرات السابقة.
ثم ليقل: الحمد لله. عند وفاة الولد؛ حتى يبنى له بيت في الجنة؛ ويسمى بيت الحمد، ثم ليقل كما قالت أم سلمة عند وفاة زوجها: «اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرًا منها». قالت: فما انتهت عدتي إلا وقد آجرني الله في مصيبتي وأخلف الله لي خيرًا من أبي سلمة»؛ حيث تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كل ذلك بسبب الصبر والاستسلام لله والرضاء بقضائه وقدره، والتزام أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم عند المصائب.
كن عن همومك معرضًا | | وكل الأمور إلى القضا |
وأبشر بخير عاجل | | تنسى به ما قد مضى |
فلربما اتسع المضيق | | ولربما ضاق الفضا |
ولرب أمر متعبٍ | | لك في عواقبه رضا |
الله يفعل ما يشاء | | فلا تكن متعرضا |
* * * *