3- أن فيه كفرا لنعمة المال:
لم يكتف المتعامل بالربا بما رزقه الله من مال، ولم يشكر نعمة الله ـ تعالى ـ به عليه؛ فأراد الزيادة ولو كانت إثما، فكان كافرا لنعمة ربه عليه؛ فمآل ماله إلى المحق ونزع البركة، كما قال الله ـ تعالى ـ: }يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ{ [البقرة: 276].
قال ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ: "أي: لا يحب كفور القلب، أثيم القول والفعل، ولابد من مناسبة في ختم هذه الآية بهذه الصفة، وهي: أن المرابي لا يرضى بما قسم الله له من الحلال، ولا يكتفي بما شرع له من الكسب المباح، فهو يسعى في أكل أموال الناس بالباطل بأنواع المكاسب الخبيثة، فهو جحود لما عليه من النعمة، ظلوم آثم بأكل أموال الناس بالباطل"([1]).
4- أن الربا مُخلّ بالإيمان:
كل معصية تخل بإيمان العبد، وعلى قدر المعصية يكون اختلال الإيمان؛ إذ إن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية كما تواترت بذلك النصوص، وكما هو مذهب السلف الصالح وأتباعهم بإحسان، وقد قال ـ تعالى ـ في شأن الربا: }وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ{ [البقرة: 278]، قال القاسمي ـ رحمه الله تعالى ـ: "فبين أن الربا والإيمان لا يجتمعان"([2]).
5- أنه من المهلكات للأفراد والأمم:
أما الأفراد فقد عد النبي صلى الله عليه وسلم الربا من التسع الموبقات([3])، ثم عده في السبع الموبقات([4]) التي حذر منها، وأمر باجتنابها.
وأما على مستوى الأمم فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه: «ما ظهر في قوم الربا والزنا إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله»([5])، وكفى بذلك زاجرا عنه للأمم التي تود المحافظة على اقتصادها، وتخشى الكوارث والنوازل.
6- الربا أعظم إثما من الزنا:
ورد في السنة النبوية أحاديث كشفت حقيقة تلك الجريمة النكراء، وأبانت بشاعتها وقبحها بما يردع كل مؤمن بالله ـ تعالى ـ والدار الآخرة عن مقاربتها بله مقارفتها، ومنها: حديث ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الربا ثلاثة وسبعون بابا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم»([6]).
وكذا حديث عبد الله بن حنظلة ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ست وثلاثين زنية»([7]).
قال الشوكاني - رحمه الله تعالى: "قوله: أشد من ست وثلاثين.. إلخ" يدل على أن معصية الربا من أشد المعاصي؛ لأن المعصية التي تعدل معصية الزنى التي هي من غاية الفظاعة والشناعة بمقدار العدد المذكور، بل أشد منها؛ لا شك أنها تجاوزت الحد في القبح"([8]).
ومن نظر في هذين النصين وشواهدهما من السنة النبوية تبين له أن قليل الربا أعظم من كثير الزنى، مع ما في الزنى من فساد الدين والدنيا؛ حيث سماه الله ـ تعالى ـ فاحشة وساء سبيلا، ونهى عن الاقتراب منه كما قال ـ تعالى ـ: }وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا{ [الإسراء: 32]، وحرمت الشريعة الطرق المفضية إليه، وسدت الذرائع الموصلة له. وفيه خيانة كبرى لزوج المزني بها ووالديها وأسرتها. ويؤدي إلى فساد الأخلاق، وارتفاع الحياء، واختلاط الأنساب، وفشو الأمراض، وحصول الشكوك، وتبرؤ الزوج من نسبة ابن زوجته الزانية وملاعنتها على ذلك، وربما حصل عنده شك في أولاده من زوجته قبل زناها، إلى غير ذلك من المفاسد العظيمة التي استوجبت أن يكون حد الزناة المحصنين: الرجم بالحجارة حتى الموت.
وحد غير المحصنين: الجلد والتغريب، ورد شهادتهم، ووصفهم بالفسق إلا أن يتوبوا، ومصيرهم في البرزخ إلى تنور مسجور تشوى فيه أجسادهم.
رغم ما تقدم كله فإن الدرهم من الربا أعظم من ست وثلاثين زنية؛ فإذا كان هذا في درهم واحد فكيف بحال من يأكلون الألوف من الربا بل الملايين والمليارات؟!
وكم هي خسارة من أسس تجارته على الربا، ومن كان كسبه من فوائد الربا الخبيثة، ومن كانت وظيفته كتابة الربا، أو الدعاية له، أو حراسة مؤسسته؟!
وما هو مصير جسد ما نبت إلا من ربا، وأولاد ما أطعموا إلا من كسبه الخبيث، وما غذيت أجسادهم إلا عليه، فما ذنبهم أن تبنى أجسادهم بالسحت؟
* الصلة بين الربا والزنا:
إن المتأمل للحديثين السابقين وما في معناهما يجد أن ثمة علاقة وثيقة بين جريمتي الربا والزنى، وأن الربا أشد جرما من الزنا؛ فما هو السر في ذلك يا ترى؟!
إن الذي يظهر لي ـ والعلم عند الله تعالى ـ أن من أهم أسباب انتشار الزنى في الأمم تعامل أفرادها بالربا، ودرهم الربا ضرره على الأمة كلها، أما الزنا فضرره مقصور على الزاني والزانية وأسرتهما وولدها، ولا يتعدى ذلك في الغالب إذا لم يكن ثمة مجاهرة به، وإقرار له([9]).
إن الطبقية التي يصنعها الربا بين أبناء الأمة الواحدة، والفجوة بين الفقراء والأغنياء التي تزداد اتساعا وانتشارا كلما تعامل الناس بالربا تجعل الفقير كلما اقترض تضاعفت ديونه، وازداد فقره، واشتد جوعه؛ حتى يضعف الفقر والجوع والحاجة غيرته على عرضه، فلا يأبه إن زنت محارمه إذا كان من وراء ذلك عائد مالي يقلل فقره، ويشبع بطنه. وما زنت الزانية المحتاجة أول ما زنت إلا لما جاع بطنها، وصاح رضيعها، احتاج أهلها، ولربما أمرها وليها بالزنا ـ عوذا بالله ـ من أجل أن تطعم أسرتها. وإذا انكسر حياؤها مرة فلن ينجبر أبدا حتى تتخذ الزنى مهنة لها إلا أن يشاء الله تعالى؛ والواقع يشهد لذلك في كل البلاد التي عم فيها الربا، وزال من أفرادها الإحسان؛ حتى أصبح المال في أيدي عدد قليل من عصابات المرابين، وأما بقية الناس فيغرقون في ديونهم، ويموتون جوعا وفقرا.
فالربا ليس سببا في وقوع الزنا فحسب؛ بل هو سبب لانتشاره في الأمم، وإذا كان الزنا جريمة أخلاقية؛ فإن الربا جريمة أخلاقية مالية تجر إلى كوارث عدة من انتشار البطالة والفقر والجوع والأحقاد بين أبناء الأمة الواحدة، وانعدام الأمن والطمأنينة..
([1]) تفسير ابن كثير، 1/493. ([2]) محاسن التأويل 1/631. ([3]) كما في حديث عبيد بن عمير الليثي عن أبيه أخرجه أبو داود في الوصايا (2875)، وفيه «هن تسع» وذكر زيادة على السبع المذكورة في حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عند الشيخين: «وعقوق الوالدين المسلمين، واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا» والطحاوي في شرح مشكل الآثار (898) والحاكم وصححه ووافقه الذهبي 1/95. ([4]) أخرجه الشيخان: البخاري في الوصايا (2766)، ومسلم في الإيمان (89) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ([5]) أخرجه أحمد 1/402، وأبو يعلى كما في المقصد العلي (1859)، من حديث ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ وجود إسناده الهيثمي في الزوائد 4/118، والمنذري في الترغيب 3/194، وأخرجه الحاكم من حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ مرفوعا، وصححه ووافقه الذهبي 2/37. ([6]) أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي 2/37، وأخرجه ابن ماج في التجارات باب التغليظ في الربا مختصرا بلفظ: «الربا ثلاثة وسبعون بابا» (2275) وصححه البوصيري في الزوائد 2/198، وأخرجه البزار في البحر الزخار (1935)، وقال الهيثمي في الزوائد: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح 4/116 – 117، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1851)، وله شاهد عند البيهقي في الشعب (2761) من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ وفي سنده عبد الله بن زيادة، قال البخاري: منكر الحديث كما في ميزان الاعتدال 2/424، وله شاهد آخر من حديث عبد الله بن سلام ـ رضي الله عنه ـ عزاه الألباني في صحيح الجامع للطبراني (1531). ([7]) أخرجه أحمد 5/225، والطبراني في الأوسط (2682)، والدارقطني (92819)، وقال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط ورجال أحمد رجال الصحيح 4/117، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1033). ([9]) هذا إذا لم ينتشر الزنى في المجتمع، والغالب أنه لا يخلو مجتمع كبير من حالات زنا، وقد وقع ذلك في الزمن الأول من الإسلام وهو أفضل العصور. ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ماعزا والغامدية ـ رضي الله عنهما ـ ولاعن هلال بن أمية زوجته ـ رضي الله عنهما ـ ولعل السبب في ذلك أن الزنى تدفع إليه غريزة قد يضعف العبد حيالها في وقت من الأوقات، وتحجب عقله فيقع المحظور. بخلاف الربا فإنه يتعلق بغريزة حب المال وهي أقل تمكنا من غريزة الشهوة الفطرية. ولذلك لم تقع حالات ربا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ـ فيما أعلم ـ بعد ورود النهي عنه رغم أنه كان من معاملاتهم المشهورة في الجاهلية.