بسم الله الرحمن الرحيم([1])
الحمد لله رب العالمين ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى أصحابه ومن استنَّ بسنته وسار على نهجه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، أما بعد:
أيها الإخوة والأخوات:
فإن من المقرر عند كل مسلم ومسلمة أن الله تبارك وتعالى لم يخلقه عبثا، تعالى الله عن ذلك؛ إنما هي غاية واحدة ومقصد أوحد من أجله خلق العباد، ألا وهو تحقيق العبودية لله ـ جل جلاله ـ فهو السيد المولى، فمن حقه أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر.
ومنذ أن خلق الله ـ تبارك وتعالى ـ أبانا آدم وهو قد أخذ عليه العهد قبل أن يخلقنا بأن نعبده ونوحده ولا نشرك به شيئا كما قال ـ جل جلاله ـ: ]وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا[([2]).
ومع هذا الميثاق إلا إنه من كرمه ـ جل جلاله ـ ومن عظم فضله وامتنانه أن أرسل الرسل مبشرين ومنذرين زيادة في الحجة، وبلاغا على العباد، وبشارة لمن أراد موعود الله والدار الآخرة.
وإن المتأمل في واقع أكثر الخلق وعامة الناس يلحظ وبجلاء أن الطائعين لله نزر يسير وعدد قليل, مقابل الكم الهائل من البشر الذين أغوتهم نفوسهم فأزاغتهم وأضلتهم عن سواء الصراط!!
أيها الإخوة والأخوات: إنه لمما يدمي القلب ويدمع العين ما نراه من الاجتراء على حرمات الله من كثير من المسلمين ومع الأسف الشديد.
أجل!! لقد تساهل الكثيرون في المعصية، وهانت على نفوسهم الذنوب، فأصبح أولئك يعاقرون ما يسخط الله ويغضبه وكأن شيئا لم يكن!! فإلى الله المشتكى وهو المستعان.
ومع تقدم إنسان هذا العصر ماديا وحضاريا؛ تنوعت وسائل الإغواء والانحراف، واجتالت الشياطين أكثر الناس فأغرقتهم في أوحال المعصية، وأردتهم في حفر الخطيئة. وزاد البعد عن الله الواحد الأحد الذي لم تنقطع نعمه، ولم تنته فضائله؛ بل هي متتابعة تترى على عباده. فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟!!
فيا من أطلق لنفسه العنان، ولم يرع لله ـ تبارك وتعالى ـ حقا: إلى متى وأنت تقتات المعصية وتألفها؟!!
ألم يحن بعد وقت الرجوع إلى الله -تبارك وتعالى؟!
أما آن لك أن تنطرح بين يدي مولاك؟!
أما آن لك أن تفيق من سكرة الذنب؟!
أيها السائر في طريق الهوى واللذة العابرة: رويداً رويداً.
أتعرف الذي تعصيه؟!
أتعرف من تبارزه بذنبك؟!
إنه الله الجبار الذي بيده ملكوت السماوات والأرض!!
أيها المسرف على نفسه: كفاك كفاك...
آن لك أن تضع عصا الترحال، وأن تذرف الدموع الغزار، دموع الندم على ما فات وسلف من الأزمان الماضية... على ما سلف من ذنوبك وخطاياك...
نعم، آن لك أن تعترف بذنبك لربك وتقول بلسان النادم الأواب:
دعني أنوح على نفسي وأندبها
الحمد لله رب العالمين ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى أصحابه ومن استنَّ بسنته وسار على نهجه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، أما بعد:
أيها الإخوة والأخوات:
فإن من المقرر عند كل مسلم ومسلمة أن الله تبارك وتعالى لم يخلقه عبثا، تعالى الله عن ذلك؛ إنما هي غاية واحدة ومقصد أوحد من أجله خلق العباد، ألا وهو تحقيق العبودية لله ـ جل جلاله ـ فهو السيد المولى، فمن حقه أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر.
ومنذ أن خلق الله ـ تبارك وتعالى ـ أبانا آدم وهو قد أخذ عليه العهد قبل أن يخلقنا بأن نعبده ونوحده ولا نشرك به شيئا كما قال ـ جل جلاله ـ: ]وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا[([2]).
ومع هذا الميثاق إلا إنه من كرمه ـ جل جلاله ـ ومن عظم فضله وامتنانه أن أرسل الرسل مبشرين ومنذرين زيادة في الحجة، وبلاغا على العباد، وبشارة لمن أراد موعود الله والدار الآخرة.
وإن المتأمل في واقع أكثر الخلق وعامة الناس يلحظ وبجلاء أن الطائعين لله نزر يسير وعدد قليل, مقابل الكم الهائل من البشر الذين أغوتهم نفوسهم فأزاغتهم وأضلتهم عن سواء الصراط!!
أيها الإخوة والأخوات: إنه لمما يدمي القلب ويدمع العين ما نراه من الاجتراء على حرمات الله من كثير من المسلمين ومع الأسف الشديد.
أجل!! لقد تساهل الكثيرون في المعصية، وهانت على نفوسهم الذنوب، فأصبح أولئك يعاقرون ما يسخط الله ويغضبه وكأن شيئا لم يكن!! فإلى الله المشتكى وهو المستعان.
ومع تقدم إنسان هذا العصر ماديا وحضاريا؛ تنوعت وسائل الإغواء والانحراف، واجتالت الشياطين أكثر الناس فأغرقتهم في أوحال المعصية، وأردتهم في حفر الخطيئة. وزاد البعد عن الله الواحد الأحد الذي لم تنقطع نعمه، ولم تنته فضائله؛ بل هي متتابعة تترى على عباده. فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟!!
فيا من أطلق لنفسه العنان، ولم يرع لله ـ تبارك وتعالى ـ حقا: إلى متى وأنت تقتات المعصية وتألفها؟!!
ألم يحن بعد وقت الرجوع إلى الله -تبارك وتعالى؟!
أما آن لك أن تنطرح بين يدي مولاك؟!
أما آن لك أن تفيق من سكرة الذنب؟!
أيها السائر في طريق الهوى واللذة العابرة: رويداً رويداً.
أتعرف الذي تعصيه؟!
أتعرف من تبارزه بذنبك؟!
إنه الله الجبار الذي بيده ملكوت السماوات والأرض!!
أيها المسرف على نفسه: كفاك كفاك...
آن لك أن تضع عصا الترحال، وأن تذرف الدموع الغزار، دموع الندم على ما فات وسلف من الأزمان الماضية... على ما سلف من ذنوبك وخطاياك...
نعم، آن لك أن تعترف بذنبك لربك وتقول بلسان النادم الأواب:
دعني أنوح على نفسي وأندبها
وأقطع الدهر بالتذكار والحزن
دعني أسح دموعاً لا انقطاع لها
فهل عسى عبرة منها تخلصني
دع عنك عذلي يا من كنت تعذلني
لو كنت تعلم ما بي كنت تعذرني
أنا الذي أغلق الأبواب مجتهداً
على المعاصي وعين الله تنظرني
يا ذلة كتبت في غفلة ذهبت
يا حسرة بقيت في القلب تحرقني
تمر ساعات أيامي بلا ندم
ولا بكاء ولا خوف ولا حزن
ما أعلم الله عني حين أمهلني
وقد تماديت في ذنبي ويسترني
كم عصيناه ويسترنا؟!! كم خالفنا أمره فما عاجلنا بعذابه؟!!
أظهر للناس الجميل، وأخفى عنهم القبيح من سرائرنا. فاللهم رحمة من عندك تكفر بها ما سلف من ذنوبنا وخطايانا.
أيها الإخوة والأخوات:
إن هذه الكلمات دعوة لنا جميعا بلا استثناء، إلى الباب المفتوح، إلى النهر العذب، إلى الروضة الغناء التي لا يذبل زهرها، ولا تذوى رياحينها وورودها، إلى التوبة النصوح، إلى التوبة من التقصير في الطاعة، ومن الوقوع في المعصية، إلى التوبة إلى الله الكريم الجواد الرؤوف الرحيم...
إن شأن التوبة ـ يا عباد الله ـ شأن عظيم. إنها علامة صدق الإيمان، وقرب العبد من الواحد الديان.
وليست التوبة ـ كما يظن البعض ـ خاصة بأهل المعاصي ممن ظهر فجورهم وبان فسقهم!!
ليست التوبة خاصة بهؤلاء فحسب؛ بل هي عامة لنا جميعاً، كما قال الله ـ جل جلاله ـ في كتابه الكريم: ]وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[([3]).
وجاء في صحيح مسلم من حديث الأغر المزني ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ r ـ قال: «يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة!!» ([4]).
هذا نبي الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ يتوب في اليوم ويستغفر مائة مرة!! فكيف بنا نحن المقصرين المذنبين؟!!
سأقف وإياكم ـ أيها الأحبة في الله ـ بعض الوقفات حول هذا الموضوع المهم الذي كلنا بحاجة إليه لعلنا أن نحيي بهذه الوقفات القلوب، ونقربها من الله علام الغيوب.
وعسى أن يكون لهذه الوقفات أثرٌ في حياتنا وسلوكنا، وإصلاح بواطننا وظواهرنا.
ومن يدري: فربما أن كلمة من هذه الكلمات تقع في قلب مؤمن أو مؤمنة فتحدث فيه هزة ويقظة تكون بها سعادته في الدنيا، وفوزه الفوز الكبير في جنات النعيم، والله المستعان وعليه التُّكلان.
الوقفة الأولى
ثمار التوبة
إن حصر ثمار التوبة أمر شاق يحتاج إلى وقت طويل ولا شك. ولكن حسبنا أن نذكر بعضها، وكفى بما سنذكره دافعا ومعينا لمن أراد الخير والفلاح.
أول هذه الثمار:
تكفير جميع السيئات، بل وقلبها إلى حسنات!!
أرأيت ـ أخي المسلم ـ أكرم من ربك ـ عز وجل ـ ؟!!
إنه إن أتيته تائبا منيبا فإنه يكفر ما سلف من سيئاتك، وأعظم من ذلك أنه ـ جل جلاله يقلب تلك السيئات إلى حسنات!!
يقول جل شأنه: ]وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا[([5]).
فيا أيها المذنبون ـ وكلنا كذلك ـ: ألا تحبون أن يغفر لله لكم؟!!
ألا تحبون أن تغسلوا عنكم أدران الذنوب بماء التوبة الطهور؟!!
جاء في صحيح مسلم من حديث أبي ذر الغفاري ـ رضي الله عنه ـ أن نبي الله ـ r ـ قال: «إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولاً الجنة، وآخر أهل النار خروجاً منها: رجل يؤتى به يوم القيامة، فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، وارفعوا عنه كبارها. فعرض عليه صغار ذنوبه. فيقال: عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا، وعملت يوم كذا وكذا كذا وكذا، فيقول: نعم لا يستطيع أن ينكر» يذكر بذنوبه فهل يستطيع أن ينكر منها شيئا في ذلك المقام؟! كلا إنه ليس بين يدي بشر من البشر، بل هو بين يدي رب البشر الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء «فيقول العبد: نعم، لا يستطيع أن ينكر، وهو مشفق من كبار ذنوبه تعرض عليه» إذاً الذي عرض عليه ما هو إلا صغار الذنوب وأما الكبائر فقد أُخفيت عنه!! «فيقال له: فإن لك مكان كل سيئة حسنة!!» عند ذلك يطمع العبد - وهذه طبيعة الإنسان - فيتذكر ذنوبه الكبار «فيقول: رب قد عملت أشياء لا أراها ههنا»!! قال أبو ذر: «فلقد رأيت رسول الله ـ r ـ ضحك حتى بدت نواجذه»([6]).
وأورد المنذري في الترغيب والترهيب والطبراني في المعجم بإسناد حسن عن أبي طويل ـ رضي الله عنه ـ أنه أتى إلى الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فقال: يا رسول الله، أرأيت من عمل الذنوب كلها، ولم يترك حاجة ولا داجة إلا أتاها (يعني لا صغيرة ولا كبيرة إلا أتاها)، فهل لذلك من توبة؟ فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ بشارة لكل تائب وتائبة، قال: «تفعل الخيرات وتترك السيئات فيجعلهن الله خيرات كلهن!!» فقال هذا الصحابي: يا رسول الله وغدراتي وفجراتي؟ قال: «نعم» فقال: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، فما زال يكبر حتى توارى عن القوم!! ([7]).
وإن شئتم ـ إخوتي وأخواتي ـ أن تروا كرم الله وفيض عطائه على التائبين فدعونا نقف جميعاً مع قصةٍ لصاحبي وصاحبية وقعا في معصية ثم بادرا بالتوبة منها. وهم بشر كغيرهم يخطئون ويصيبون؛ لكن الفرق بينهم وبين كثير من الناس أن أولئك القوم سرعان ما يبادرون إلى التوبة، سرعان ما يعودون إلى الله -جل جلاله.
وذاك دأب الصالحين. يقول الله -تبارك وتعالى-: ]إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ[([8]).
إنها قصة الصحابي الجليل ماعز الأسلمي، والصحابية الجليلة الغامدية ـ رضي الله تعالى عنهما وأرضاهما...
إنها بحق قصة عجيبة!!
فيها من العبر ما يهز الوجدان، ويرفع منسوب الإيمان في قلب كل مؤمن.
جاء في صحيح مسلم عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: جاء ماعز بن مالك ـ رضي الله عنه ـ إلى رسول الله ـ r ـ فقال: يا رسول الله، طهرني. قال: «ويحك، ارجع فاستغفر الله وتب إليه» فرجع غير بعيد، ثم عاد مرة أخرى، فقال: يا رسول الله، طهرني!! فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «ويحك، ارجع فاستغفر الله وتب إليه» حتى إذا كانت الرابعة قال رسول الله r: «فيم أطهرك؟!» قال: من الزنا يا رسول الله!! فسأل النبي rبعض من حوله: «أبه جنون؟!» فقال بعض قومه: «والله يا رسول الله ما علمنا به جنوناً» فقال: «أشرب الخمر؟!» فقام أحد الناس إلى هذا الصحابي ـ رضي الله عنه ـ فاستَنْكَهَه (يعني شمَّه) فلم يجد منه ريح الخمر!!
لقد كان بإمكان هذا الصحابي عندما قال له النبي ـ r ـ: «ارجع» في أول مرّة أن يذهب ويقول: قد أخبرت رسول الله وبرئت ذمتي. ولكنه ـ رضي الله عنه ـ كان في قلبه الإيمان والخوف من سطوة الله وعذابه!!
ثم ماذا؟ لقد جاء يطلب التطهير من ذنبه وهو يعلم أنه القتل، وأي قتل؟!!
إنه رمي بالحجارة حتى الموت وأمام أعين الناس!! فالأمر صعب وشاق، ومع هذا كان ـ رضي الله عنه ـ يلحُّ في طلب ذلك!!لِم كل هذا؟ لأجل أن ينجو من عذاب الله!!
إنه يعلم أن العقوبة في الدنيا وإن كانت قاسية وأليمة، لكن ليست بأقسى ولا أخزى من غمسة واحدة في نار جهنم!! فكان من شأنه أن يتحمل عذاب الدنيا لأجل أن ينجو من عذاب الله غداً!!
فلما جاء هذا الصحابي في المرة الرابعة وكرر الطلب ما كان للنبي ـ r ـ بدٌّ من أن يأمر به فيرجم ـ رضي الله عنه وأرضاه.
نعم لقد رُجم هذا الصحابي، فكان الناس فيه فرقتين: قائل يقول: لقد هلك، لقد أحاطت به خطيئته. وقائل يقول: ما توبة أفضل من توبة ماعز.
فلبثوا يومين أو ثلاثة، ثم جاء رسول الله ـ r ـ وهم جلوس فسلم عليهم، ثم جلس وقال: «استغفروا لأخيكم ماعز بن مالك» قالوا: غفر الله لماعز بن مالك، فقال النبي ـ r ـ: «لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم»([9]).
وجاء في رواية لأبي داود: إن النبي ـ r ـ حينما أمر برجم ماعز ـ رضي الله عنه ـ سمع رجلين من أصحابه يقول أحدهما لصاحبه: انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رُجم رجْمَ الكلب!!
فسكت رسول الله ـ r ـ وسار هو ومن معه من الصحابة، ومعهم هذا الرجلان حتى مرَّا بجيفة حمار شائل برجله، فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ حين وقف: «أين فلان وفلان؟» فقالا: نحن ذان يا رسول الله، فقال: «انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار»!! فقالا: غفر الله لك يا رسول الله، ومن يأكل من هذا الحمار؟!! فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «ما نلتما من عرض أخيكما آنفاً أشدُّ من أكلٍ منه!! والذي نفسي بيده إني لأراه الآن ينغمس في أنهار الجنة»!!([10]).
الله أكبر، إنها كرامة الله، إنه فضل الله... وهل وجدتم أعظم من أنْ جاد بنفسه في سبيل الله؟!!
أما صاحبته الغامدية فقصتها أعجب وأعجب!!
لقد علمت بالطريقة التي مات بها ماعز ـ رضي الله عنه ـ فلم تستخف عن الناس، لم تهرب منهم؛ بل لقد كان شأنها عجباً من العجب!!
جاء في صحيح مسلم في قصة هذه المرأة: إنها جاءت إلى النبي ـ r ـ فقالت: يا رسول الله إني زنيت فطهرني!! فردها رسول الله ـ r ـ وأشاع عنها يميناً، فجاءته من عن يمينه، فقالت له ذلك!! فأشاع عنها شمالاً، فجاءته من ناحية الشمال!! فقال لها ذلك، يصرف النبي ـ r ـ بصره عن هذه المرأة لعلها أن تذهب، لعلها أن تستر نفسها!! لكنها ـ رضي الله عنها ـ قالت له ـ r ـ: لعلك تردني كما رددت ماعزاً، فوالله إني لحبلى من الزنا!!
فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «إمَّا لا، فاذهبي حتى تلدي»!!
فذهبت، وجلست تسعة أشهر حتى ولدت رضيعها. فعادت بعد تسعة أشهر، وجاءت بالصبي في خرقة!!
هي التي جاءت بنفسها ولم يطلبها النبي ـ r ـ ولم يأخذ عليها عهداً. فقالت: ها قد ولدته يا رسول الله فطهرني!!
فقال النبي ـ r ـ: «اذهبي حتى ترضعيه، ثم تفطميه»!!
فذهبت لترضعه. أهو يوم أم يومان؟! أم شهر أم شهران؟! كلا، إنها سنتان كاملتان!!
ذهبت وجلست سنتين وقبلها تسعة أشهر ونار المعصية تشوي فؤادها وتقض مضجعها. فكم أهرقت لها من دمعة؟! وكم أسبلت لها من عبرة؟! تبيت الليالي ذوات العدد في حالك الظلمات تناجي ربها، وتشكو بثَّها وحزنها إلى الذي يراها، ويبصر ضعفها وهي تعفِّر جبينها ساجدة لربها، مقرَّة بخطيئتها، نادمة على فعلها!!
فلله درُّها ما أعظم خشيتها!! ولله درها ما أجلَّ إعظامها لمولاها!!
لقد قضت تلك الصحابية الجليلة أيامها التي حدّدها رسول الله ـ r ـ حتى تفطم ولدها، وكلها شوق إلى ذلك اليوم، وذلك الميعاد. وأي ميعاد؟! أهو لقاء حبيب؟! أهي ليلة عرس؟! أهو فوز بشهادة أو منصب؟!
كلا والله بل هو موعد مع الموت...
أجل إنه الموت، وأي موت؟! إنه الرجم بالحجارة على مشهد من الناس!!
ألا تعجبون ـ إخوتي وأخواتي ـ من هذا الإيمان الذي يزلزل الجبال الراسيات؟!
أتت إلى النبي ـ r ـ بعد أن فطمت صبيها، جاءت به، وفي يده كسرة من خبز. تقول: يا نبي الله ها قد فطمته، وقد أكل الطعام، واستغنى عني!!
فدفع النبي ـ r ـ بالصبي إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها فحُفر إلى صدرها، ثم أمر الناس فرجموها حتى زهقت روحها الطاهرة... وارتفعت إلى مولاها راضية مرضية...
هانت عليها نفسها في ذات الله، واستعذبت العذاب طمعاً في مغفرة رب الأرباب!!
صعدت روحها إلى الله حيث النعيم المقيم، ورحمة الكريم الرحيم.
لقيت ربها نقية من الذنوب، سالمة من الآثام، فرحة برضا خالقها.
وكان من بين من رجم تلك المرأة من الصحابة, خالد بن الوليد ـ رضي الله عنه ـ فرجمها بحصاة في رأسها فتنضَّح الدم على وجهه، فغضب وسبها ـ غفر الله له ـ، فسمع رسول الله ـ r ـ ما قاله خالد، فقال: «مهلا يا خالد، فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبةً لو تابها صاحب مَكسٍ([11]) لغفر الله له»([12]).
ثم أمر بها فصلى عليها ودفنت ـ رضي الله عنها وأرضاها ـ وألحقنا بها في جنات وأنهار في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
فأبشروا ـ معاشر التائبين والتائبات ـ أبشروا برحمة الله وتكفيره لخطاياكم وذنوبكم ولو بلغت عنان السماء.
الثمرة الثانية من ثمار التوبة
تغير الحياة من جحيم إلى نعيم
إن أسعد الناس هم التائبون والتائبات؛ لأنهم قوم رقَّت قلوبهم، وخشعت لمولاها، فأورثها الله حلاوة وجدوها في نفوسهم.
وهذه اللذة لا تكون إلا لمن أظهروا فقرهم لله وانطرحوا بين يديه خاشعين باكين وأنابوا إليه. لقد ذاقوا بذلك حلاوة رزقهم الله إياها لا تحصل لأي أحد غلا لمن كان على مثل حالهم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «القلب لا يصلح ولا يفلح ولا يتلذذ ولا يسر ولا يطيب ولا يسكن ولا يطمئن إلا بعبادة ربه وحبه والإنابة إليه»([13]).
وما ذكره ـ رحمه الله ـ هو مصداق قول الرسول ـ r ـ كما جاء في صحيح مسلم من حديث العباس بن عبد المطلب: «ذاق حلاوة الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد ـ r ـ رسولاً»([14]).
وانظروا ـ عباد الله ـ إلى كلام ابن القيم وهو يتحدث عن شيخه ابن تيمية الذي سبق ذكر قوله آنفاً.
شيخ الإسلام ابن تيمية ابتُلي كثيراً!! تعرض لكثير من المشقة وكثير من العناء في حياته، هُدِّد... سُجن... طرد من بلاده... كثير حاسدوه وشانؤوه... ومع ذلك كله: هل كان تعيساً؟ هل كان شقياً؟ هل كان كثير الأحزان؟
اسمعوا إلى كلام ابن القيم عنه يقول: «كان شيخ الإسلام يقول في سجوده وهو محبوس: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. وقال لي مرة: المحبوس من حُبس قلبه عن ذكر ربه!! والمأسور من أسره هواه!!».
ولما دخل السجن سجن القلعة وصار داخل سورها نظر إلى السور وقرأ قول الله تعالى ]فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ[. ثم يقول ابن القيم: «وعلم الله ما رأيت أحداً أطيب عيشا منه قط مع ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والنعيم. ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق!! وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً، وأشرحهم وأقواهم وأسرهم نفساً!! تلوح نضرة النعيم على وجهه! وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت بنا الظنون، وضاقت بنا الأرض، أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً!! فسبحان من أشهدَ عباده جنته قبل لقائه»([15]).
الثمرة الثالثة من ثمار التوبة
فرحة الله بتوبة عبده وأمته
أوَ يفرح الله؟! نعم، إن ذلك من صفاته، بل إن من صفاته أن يضحك ـ جل شأنه ـ وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ في الحديث الطويل في خبر آخر من يدخل الجنة حيث يدعو ربّه ويلح عليه في الدعاء، قال ـ r ـ فيقول: «أي ربِّ لا أكوننَّ أشقى خلقك، فلا يزال يدعو حتى يضحك الله منه، فإذا ضحك منه قال له: ادخل الجنة، فإذا دخلها قال الله له: تمنَّه، فسأل ربه وتمنَّى حتى إن الله ليذكره يقول: كذا وكذا، حتى انقطعت به الأماني، قال الله: ذلك لك ومثله معه!!»([16]).
أيها الإخوة في الله: إن الله ـ جل جلاله ـ ليفرح بتوبة عباده وهو الغني عنهم وهم الفقراء إليه!! يقول جل شأنه: ]يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ[([17]).
أي فرحة هذه؟ وما مقدارها؟ اسمع إلى قول رسول الله ـ r ـ في حديث مشهور معروف يبين كيف تكون فرحة الله بتوبة عبده إذا تاب إليه.
جاء في صحيح البخاري ومسلم من حديث أنس ـ رضي الله عنه ـ يقول النبي ـ r ـ: «لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه» فلتت منه ناقته وندَّت عنه فذهب يبحث عنها، صعد الجبال نزل الوديان، يبحث يميناً وشمالاً فلم ير لها أثراً، وعلى هذه الدابة طعامه وشرابه وكساؤه!! أين هو؟! في صحراء ما بها أحد ينقذه ولا بشر يساعده!! «فآيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها, قد أيس من راحلته فبينا هو كذلك» ينتظر ماذا؟ إنه ينتظر الموت!! إذ به يرفع رأسه «إذا هو بها قائمة عنده» وعليها طعامه وشرابه وكساؤه!! تخيلوا معي ـ إخوتي وأخواتي ـ: أيّ فرحة ستتملّك قلب ذلك العبد حينما يكون حاله كهذه الحال؟!! إنها فرحة عظيمة... إنها حياة جديدة... «فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك!! أخطأ من شدة الفرح!!»([18]).
إن الفرح قد تملك قلبه، وأطاش لبَّه حتى نسي وغلط فَقَلَبَ، وقال: أنت عبدي وأنا ربك!!
إن هذه الفرحة الكبرى في قلب ذلك العبد الناجي من الهلاك لا تساوي شيئاً أما فرحة الله ـ جل في علاه ـ بتوبة عبده إذا جاءه تائباً نادماً!!
الله أكبر!! إنه كرم الله وجوده، وعطفه وامتنانه. فلا عذر ـ بعد ذلك ـ لأحد أن يبتعد وأن يتردد عن القرب من الكريم الجواد ـ جلّ في علاه ـ.
كيف والله يقول كما جاء في الحديث القدسي الثابت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ يقول الله الكريم الغني عن عباده: «من تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً، ومن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة!!»([19]) القائل هو الله!! أتخيّلت ذلك؟!!
وعند البخاري «وما يزال عبدي يتقرب إلىَّ بالنوافل حتى أحبّه!! فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنّه. وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته!!»([20]).
فاللهم ارزقنا حبك وحب من يحبك وحب العمل الذي يقرب إلى حبك،واجعلنا من أحبابك وصفوة أوليائك.