بسم الله الرحمن الرحيم
رحمة الله
أسبابها وآثارها
بين يدي البحثإن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾[آل عمران: 102].
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾[النساء: 1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71].
فبقراءتي للقرآن الكريم والسُّنَّة المشرفة، لفت نظري كثرة ذكر (الرحمة) فرجعت إلى المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، فوجدت حشدًا من الآيات التي تناولت الرحمة ومشقاتها، ورجعت إلى المعجم المفهرس لألفاظ الحديث الشريف فوجدته كذلك. ثم اطَّلعت على ما كتبه الأستاذ/ سيد قطب رحمه الله في "ظلال القرآن" على أول سورة فاطر فدهشت لما وضحه وبيَّنه وسطَّره، فخطر في بالي أن أجمع النصوص في هذا الباب رغبة في الاستزادة في العلم، ومشاركة في مجال المعرفة، أسأل الله أن يجعله علمًا نافعًا وعملاً صالحًا.
مفهوم الرحمة:
المعنى اللغوي لكلمة الرحمة:
قال ابن منظور: الرحمة: الرقَّة والتعطف.
والرحمة: المغفرة.
والرحمة: الرزق والغيث.
والرحمة في بني آدم: رقَّة القلب وعطفه.
رحمة الله: عطفه، وإحسانه، ورزقه([1]).
أما في الاصطلاح([2]): فالرحمة صفة تقتضي إيصال المنافع والمصالح إلى العبد، وإن كرهتها نفسه، وشقَّت عليها، فهذه هي الرحمة الحقيقية، فأرحم الناس بك من أوصل إليك مصالحك، ودفع المضار عنك، ولو شقَّ عليك في ذلك، فمن رحمة الأب بولده: أن يُكرهه على التأدب بالعلم والعمل، ويُشقُّ عليه في ذلك، بالضرب وغيره، ويمنعه شهواته التي تعود بضرره، ومتى أهمل ذلك من ولده كان لقلَّة رحمته به، وإن ظنَّ أنه يرحمه، ويرفِّهه ويريحه فهذه رحمة مقرونة بجهل، كرحمة بعض الأُمَّهات.
ولهذا كان من تمام رحمة أرحم الراحمين: تسليط أنواع البلاء على العبد، فإنه أعلم بمصلحته، فابتلاؤه له، وامتحانه، ومنعه من كثير من أغراضه وشهواته من رحمته به، لكن العبد لجهله وظلمه يتَّهم ربَّه بابتلائه، ولا يعلم إحسانه تعالى إليه بابتلائه وامتحانه.
فمن رحمته سبحانه بعباده: ابتلاؤهم بالأوامر والنواهي رحمة وحمية، لا حاجة منه إليهم بما أمرهم به، فهو الغني الحميد، ولا بخلاً منه عليهم بما نهاهم عنه، فهو الجوَّاد الكريم.
ومن رحمته أن نغص عليهم الدنيا وكدرها لئلاَّ يسكنوا إليها، ولا يطمئنوا ويرغبوا في النعيم المقيم في داره، وجواره، فساقهم إلى ذلك بسياط الابتلاء والامتحان فمنعهم ليُعطيهم، وابتلاهم ليُعافيهم، وأماتهم ليُحييهم.
ومن رحمته بهم: أن حذَّرهم نفسه، لئلاَّ يغترُّوا به، يعاملوه بما لا تحسن معاملته به، كما قال تعالى: ﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 30].
قال غير واحد من السلف: من رأفته بالعباد، حذَّرهم من نفسه لئلاَّ يغتروا به([3]).
والرحمة صفة من صفات الله ثابتة بالكتاب والسُّنَّة وإجماع سلف الأُمَّة.
قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحديد: 28] وقال سبحانه: ﴿ قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ ﴾ [الأنعام: 12] وقال جلَّ شأنه: ﴿ وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الأنعام: 54] وقال عزَّ من قائل: ﴿ وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آَخَرِينَ ﴾ [الأنعام: 133] وقال جلَّ وعلا: ﴿ قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا ﴾ [الإسراء: 100] وقال تعالى: ﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [فاطر: 2] وقال عزَّ اسمه: ﴿ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ ﴾ [ص: 9] .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «جعل الله الرحمة في مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءًا وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا، فمن ذلك الجزء تتراحم الخلق حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه»([4]) وقال نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم : «لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنَّته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنَّته أحد»([5]).
وقد أجمع سلف هذه الأمة على وصف الله بأنه "رحيم" وعلى أن من صفاته "الرحمة" وأثبتوا هذه الصفة، كما أثبتها سبحانه لنفسه وأثبتها له نبيه صلى الله عليه وسلم بل هذا الأمر فطري لا يتوقف فيه إنسان ما، إذ كل حي يُدرك أثر هذه الصفة في نفسه وفي غيره في الأرض وفي السماء، في كل لحظة ولمحة، وجميع القلوب تُقرُّ برحمة أرحم الراحمين.
فالرحمة ثابتة لله، بل قد ثبت أنه جلَّ شأنه هو أرحم الراحمين: قال تعالى: ﴿ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [الأعراف: 151] وقال سبحانه: ﴿ قَالَ هَلْ آَمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [يوسف: 64] وقال جلَّ ذكره: ﴿ قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [يوسف: 92] وقال عزَّ من قائل: ﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 83].
وروى مسلم من حديث أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله: فيقول الله عزَّ وجلَّ: «شُفِّعت الملائكة، وشُفِّع النبيون، وشُفِّع المؤمنون، ولم يبقَ إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قومًا لم يعملوا خيرًا قط»([6]).
ولله تعالى اسمان مشتقان من الرحمة هما: الرحمن الرحيم، وسوف نفصل القول فيهما في المبحث التالي:
([1]) لسان العرب لابن منظور (12/230) ط صادر.
([2]) من كلام ابن القيِّم في كتابه "إغاثة اللهفان" (2/169-175).
([3]) إغاثة اللهفان (2/169-175).
([4]) أخرجه البخاري في الصحيح (10/431) رقم (6000) من حديث أبي هريرة، ومسلم في الصحيح (4/2109) رقم (21) وأحمد في المسند (5/5439)، (2/334)، (3/55) والترمذي في الجامع كتاب الدعوات /99 وابن ماجة في السنن (2/1435) رقم (4293، 4294) وذكره الألباني في صحيح الجامع رقم (2168).
([5]) أخرجه مسلم في الصحيح (4/2109) رقم (2755) من حديث أبي هريرة.
([6]) صحيح مسلم (1/170) رقم (302) وأحمد (1/5) وابن ماجة في السنن كتاب الزهد رقم /35.