الأحنف بن قيس سيِّد من سادات بني تميم، وداهية من دُهاة العرب، وممَّن يُضرَب به المَثَل في حِلْمه.
قَدِم الأحنف على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في أهل البصرة، وأهل الكوفة، فتكلَّموا عندَه في أنفسهم، وما ينوب كل واحد منهم، وتكلَّم الأحنف فقال: يا أمير المؤمنين، إنَّ مفاتيح الخير بيد الله، وقد أتتْك وفود العراق، وإنَّ إخواننا من أهل الكوفة والشام ومصر نزلوا منازلَ الأمم الخالية، والملوك الجبابرة، ومنازل كِسرى وقيصر وبني الأصفر، فهُم من المياه العذبة، والجنان المختلفة في مثل حولاء السَّلَى، وحدقة البعير، تأتيهم ثمارُهم غضَّة لم تحضر، وإنَّا أُنزِلنا أرضًا طرفٌ في فلاة، وطرفٌ في مِلح أُجاج، جانب منها منابت القصب، وجانب سبخة نشاشة، لا يجفُّ ثراها، ولا ينبت مرعاها، يخرج الرجل الضعيف منا يستعذِب الماء من فرسخين، وتخرج المرأة بمثل ذلك ترنق لولدِها ترنيقَ العنز، يُخاف عليه العدوُّ والسَّبُع، فإن لا ترفع خسيستنا، وتنعش ركيستنا، وتجبر فاقتنا، وتَزِد في عيالنا عيالاً، وفي رجالنا رجالاً، وتُصغِّر درهمنا، وتُكبِّر قفيزنا، وتأمر لنا بنهر نستعذب به الماء - هلكْنا، فقال عمر: هذا والله السيِّد، ثم كتب إلى أبي موسى الأشعري أن يحتفرَ لهم نهرًا.
ووفد الأحنف على معاوية مع أهل العراق، فخرج الآذن فقال: إنَّ أمير المؤمنين يَعزِم عليكم ألاَّ يتكلَّم أحدٌ إلاَّ لنفسه، فلمَّا وصلوا إليه قال الأحنف: لولا عزمةُ أمير المؤمنين لأخبرته أن دافَّةً دَفَّتْ، ونازلةً نَزَلتْ، ونابتةً نَبَتتْ، كلهم بهم حاجة إلى معروف أمير المؤمنين وبرِّه، فقال معاوية: حسبُك يا أبا بحر، فقد كفيتَ الشاهد والغائب.
قيل للأحنف: ممَّن تعلمتَ الحِلم؟ قال: مِن قيس بن عاصم المنقري، رأيتُه قاعدًا بفناء داره، محتبيًا بحمائل سيفِه، يُحدِّث قومه، حتى أُتي برجل مكتوف، ورجل مقتول، فقيل له: هذا ابنُ أخيك قَتَل ابنَك، فوالله ما حلَّ حُبوتَه، ولا قطع كلامه، ثم التفتَ إلى ابن أخيه، وقال: يا ابنَ أخي، أسأتَ إلى رَحِمك، ورميتَ نفسك بسهمك، وقتلت ابن عمِّك، ثم قال لابنٍ له آخر: قُمْ يا بني، فحلَّ كتاف ابن عمِّك، ووارِ أخاك، وسُقْ إلى أمِّه مائةَ ناقة دية ابنها، فإنها غريبة، ثم أنشأ يقول:إِنِّي امْرُؤٌ لاَ يَطَّبَى حَسَبِي
دَنَسٌ يُهَجِّنُهُ وَلاَ أَفْنُ
مِنْ مِنْقَرٍ فِي بَيْتِ مَكْرُمَةٍ
وَالْغُصْنُ يَنْبُتُ حَوْلَهُ الْغُصْنُ
خُطَبَاءُ حِينَ يَقُولُ قَائِلُهُمْ
بِيضُ الْوُجُوهِ مَصَاقِعٌ لُسْنُ
لاَ يَفْطِنُونُ لِعَيْبِ جَارِهُمُ
وَهُمُ لِحِفْظِ جِوَارِهِ فُطْنُ
♦ ولَمَّا عَزَم معاوية على البيعة ليزيدَ، كتب إلى زياد أن يوجِّه إليه بوفد أهل البصرة والكوفة، فتكلَّمتِ الخطباء في يزيد، والأحنفُ بن قيس ساكتٌ، فلمَّا فرغوا قال معاوية: قل يا أبا بحر، فإنَّ العيون إليك أشرعُ منها إلى غيرك، فقام الأحنف، فحَمِد الله وأثنى عليه، وصلَّى على نبيه - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثم قال:
يا أميرَ المؤمنين، إنَّك أعلمُنا بيزيد في ليله ونهاره، وإعلانه وإسراره، فإن كنتَ تعلمُه لله رِضًا فلا تشاورْ فيه أحدًا، ولا تُقِم له الخطباءَ والشعراء، وإن كنت تعلم بُعدَه من الله فلا تزودْه من الدنيا وترحل أنت إلى الآخرة، فإنَّك تصير إلى ﴿ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ﴾ [عبس: 34 - 36]، فكأنَّه أفْرَغ على معاوية ذَنوبَ ماءٍ بارد.
فقال له: اقعدْ يا أبا بحر، فإنَّ خِيَرة الله تجري، وقضاءَه يمضي، وأحكامه تنفذ، لا مُعقِّب لحُكمه، ولا رادَّ لقضائه، وإنَّ يَزيدَ فتًى بلوناه، ولم نجد في قريش فتًى هو أجدرُ بأن يجتمع عليه منه.
فقال: يا أمير المؤمنين: أنت تحكي عن شاهِد، ونحن نتكلَّم على غائب، وإذا أراد الله شيئًا كان.
♦سأل غيلان بن خرشة الأحنفَ بن قيس: ما بقاءُ ما فيه العرب؟ قال: إذا تقلَّدوا السيوف، وشدُّوا العمائم، وركبوا الخيل، ولم تأخذْهم حمية الأوغاد، قال غيلان: وما حمية الأوغاد؟ قال: أن يَعُدُّوا التواهبَ فيما بينهم ضَيْمًا.
♦ قال رجل للأحنف: دُلَّني على حمدٍ بلا مرزئة؟ قال: الخُلق السجيح، والكفُّ عن القبيح، ثم اعلموا أنَّ أدوى الداء اللِّسان البذيء، والخُلق الرديء.
وقال: مَن ظلم نفسه كان لغيرِه أظلمَ، ومَن هدم دِينه كان لمجدِه أهدم.
♦قال رجل في مجلس الأحنف بن قيس: ليس شيءٌ أبغض إليَّ من التَّمْر والزُّبد، فقال الأحنف: رُبَّ ملومٍ لا ذنبَ له.
يعزل الولاة ويُولِّيهم:
كان زياد بن أبيه يُقرِّب الأحنف ويُدنيه، فلمَّا مات زياد وولي ابنه عبيدالله لم يرفع به رأسًا، فتأخَّرت عنده منزلتُه، فلما وفد برؤساء العراق على معاوية أدخلهم عليه على مراتبهم عندَه، فكان الأحنف آخِرَ مَن أدخله عليه، فلمَّا رآه معاوية أجلَّه وأعظمه، وأدْناه وأكرمه، وأجلسه معه على الفراش، ثم أقبل عليه يحادثه دونهم، ثم شَرَع الحاضرون في الثناء على ابن زياد، والأحنف ساكت، فقال له معاوية: مالك لا تتكلَّم؟ قال: إن تكلمت خالفتُهم، فقال معاوية: أُشهِدكم أني قد عزلتُه عن العراق، ثم قال لهم: انظروا لكم نائبًا، وأجَّلهم ثلاثة أيام، فاختلفوا بينهم اختلافًا كثيرًا، ولم يذكر أحدٌ منهم بعد ذلك عبيدالله ولا طلبه أحدٌ منهم، ولم يتكلَّم الأحنف في ذلك كلمة واحدة مع أحد منهم.
فلما اجتمعوا بعدَ ثلاثٍ أفاضوا في ذلك الكلام، وكثر اللغط، وارتفعت الأصوات، والأحنف ساكت، فقال له معاوية: تكلَّم، فقال له: إن كنتَ تريد أن تولِّيَ فيها أحدًا من أهل بيتك، فليس فيهم مَن هو مثل عبيدالله، فإنَّه رجل حازم لا يسدُّ أحد منهم مسدَّه، وإن كنت تريد غيرَه، فأنت أعلم بقرابتك، فردَّه معاوية إلى الولاية، ثم قال له بينه وبينه: كيف جهلتَ مثل الأحنف؟ إنَّه هو الذي عزلَك وولاَّك، وهو ساكت؟! فعظُمت منزلة الأحنف بعد ذلك عند ابن زياد جدًّا.
♦ قال الأحنف: خير الإخوان مَن إذا استغنيت عنه لم يزدِك في المودة، وإن احتجتَ إليه لم ينقصك منها، وإن عثرتَ عضدك، وإن احتجت إلى مؤونته رفدك وأنشد:أَخُوكَ الَّذِي إِنْ تَدْعُهُ لِمُلِمَّةٍ
يُجِبْكَ وَإِنْ تَغَضَبْ إِلَى السَّيْفِ يَغْضَبِ
♦ حكى ابنُ أبي عائشة: أنَّ شابًّا كان يجالس الأحنف، ويطيل الصمت، فأَعجب ذلك الأحنف، فخلَتِ الحلقة يومًا، فقال له الأحنف: تكلَّم يا ابن أخي، فقال: يا عمِّ أرأيت لو أنَّ رجلاً سقط من شرف هذا المسجد، هل كان يضرُّه شيء؟ فقال: يا ابن أخي، ليتنا تركناك مستورًا، ثم تمثَّل بقول الأعور الشني[1]:وَكَائِنْ تَرَى مِنْ صَامِتٍ لَكَ مُعْجِبٍ
زِيَادَتُهُ أَوْ نَقْصُهُ فِي التَّكَلُّمِ
لِسَانُ الْفَتَى نِصْفٌ وَنِصْفٌ فُؤَادُهُ
فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ صُورَةُ اللَّحْمِ وَالدَّمِ
♦ قال الأحنف: إنَّ الله جعل أسعدَ عباده، وأرشدَهم لديه، وأحظاهم يوم القيامة - أبذلَهم للمعروف يدًا، وأكثرَهم على الإخوان فضلاً، وأحسنَهم له على ذلك شكرًا.
♦ جاء رجلٌ فشتم الأحنف، فسكت عنه، وأعاد فسكت، فقال الرجل: والْهفاه، ما يمنعه من أن يردَّ عليَّ إلا هواني عنده.
♦ قال الأحنف: لا صَدِيقَ لملول، ولا وفاءَ لكذوب، ولا راحة لحسود، ولا مروءة لدنيء، ولا زعامة لسيئ الخُلق.
♦ قال الأحنف لمعاوية: أخافك إنْ صدقتُك، وأخاف اللهَ إن كذبتُك.
♦ قال الأحنف: لقد اختلفْنا إلى قيس بن عاصم في الحِلم كما نختلف إلى الفقهاء في الفِقه.
وكان يقول: لا مروءةَ لكذوب، ولا سوادَ لبخيل، ولا ورعَ لسيئ الخُلق.
♦ وقال الأحنف: رُبَّ رجل لا تغيب فوائده، وإن غاب آخَرُ لا يسلم منه جليسه وإن احترس.
قال الأحنف بخراسان: يا بني تميم، تحابُّوا تجتمعْ كلمتُكم، وتباذلوا تعتدلْ أموالكم، وابدؤوا بجهاد بطونكم وفُروجكم يصلحْ لكم دينكم، ولا تَغلُّوا يَسلمْ لكم جهادكم.
♦ وقال: أسرع الناس إلى الفِتنة أقلُّهم حياءً من الفرار.
♦ قال الأحنف: السؤدد مع السواد - يريد أنَّ السيِّد يُعرف في حداثته وسواد رأسه ولحيته.
♦ قال الأصمعي: وَفَد الأحنف والمنذر بن الجارود إلى معاوية، فتهيَّأ المنذر، وخرج الأحنف على قَعود وعليه بَتٌّ، فكلَّما مرَّ المنذر قال الناس: هذا الأحنف، فقال المنذر: أراني تزينت لهذا الشيخ.
♦ قال رجل للأحنف: بِمَ سدتَ قومك؟ قال: بترْكي من الأمر ما لا يَعنيني، كما عناك من أمري ما لا يَعنيك.
♦ وأغلظ رجلٌ للأحنف في الكلام، وقال له: والله يا أحنف، لئن قلتَ لي واحدة لتسمعنَّ بدلها عشرًا، فقال له: إنَّك إن قلت لي عشرًا لا تسمع مني واحدة.
♦ كان معاوية يَأْذَن للأحنف أوَّلَ مَن يأذن له، فأذِن له يومًا، ثم أذِن لمحمد بن الأشعث، فأقبل حتى جلس بين معاوية والأحنف، فقال له معاوية: لقد أحسستَ من نفسك ذُلاًّ، إني لم آذَن له قبلك إلاَّ ليكونَ في المجلس دونك، وإنما كما نَملِك أموركم، كذلك نملك تأديبَكم، فأريدوا ما يُراد بكم، فإنه أبقى لنعمتكم، وأحسنُ لأدبكم.
♦ قال رجل لأحنف بن قيس: بأيِّ شيءٍ سُدتَ تميمًا، فوالله ما أنت بأجودِهم ولا أشجعهم، ولا أجملهم ولا أشرفهم؟! قال: بخلاف ما أنت فيه؟ قال: وما خلاف ما أنا فيه؟ قال: ترْكي ما لا يَعنيني من أمور الناس، كما عناك من أمري ما لا يعنيك.
♦ استعمل عمر بن عبدالعزيز رجلاً، فقيل له: إنَّه حديث السِّنّ، ولا نراه يضبط عملك، فأخذ العهد منه، وقال: ما أراك تضبط عملك لحداثتك، فقال الفتى:وَلَيْسَ يَزِيدُ الْمَرْءَ جَهْلاً وَلاَ عَمًى
إِذَا كَانَ ذَا عَقْلٍ حَدَاثَةُ سِنِّهِ
فقال عمر: صَدَق، وردَّ عليه عهده.
قَدِم الأحنف على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في أهل البصرة، وأهل الكوفة، فتكلَّموا عندَه في أنفسهم، وما ينوب كل واحد منهم، وتكلَّم الأحنف فقال: يا أمير المؤمنين، إنَّ مفاتيح الخير بيد الله، وقد أتتْك وفود العراق، وإنَّ إخواننا من أهل الكوفة والشام ومصر نزلوا منازلَ الأمم الخالية، والملوك الجبابرة، ومنازل كِسرى وقيصر وبني الأصفر، فهُم من المياه العذبة، والجنان المختلفة في مثل حولاء السَّلَى، وحدقة البعير، تأتيهم ثمارُهم غضَّة لم تحضر، وإنَّا أُنزِلنا أرضًا طرفٌ في فلاة، وطرفٌ في مِلح أُجاج، جانب منها منابت القصب، وجانب سبخة نشاشة، لا يجفُّ ثراها، ولا ينبت مرعاها، يخرج الرجل الضعيف منا يستعذِب الماء من فرسخين، وتخرج المرأة بمثل ذلك ترنق لولدِها ترنيقَ العنز، يُخاف عليه العدوُّ والسَّبُع، فإن لا ترفع خسيستنا، وتنعش ركيستنا، وتجبر فاقتنا، وتَزِد في عيالنا عيالاً، وفي رجالنا رجالاً، وتُصغِّر درهمنا، وتُكبِّر قفيزنا، وتأمر لنا بنهر نستعذب به الماء - هلكْنا، فقال عمر: هذا والله السيِّد، ثم كتب إلى أبي موسى الأشعري أن يحتفرَ لهم نهرًا.
ووفد الأحنف على معاوية مع أهل العراق، فخرج الآذن فقال: إنَّ أمير المؤمنين يَعزِم عليكم ألاَّ يتكلَّم أحدٌ إلاَّ لنفسه، فلمَّا وصلوا إليه قال الأحنف: لولا عزمةُ أمير المؤمنين لأخبرته أن دافَّةً دَفَّتْ، ونازلةً نَزَلتْ، ونابتةً نَبَتتْ، كلهم بهم حاجة إلى معروف أمير المؤمنين وبرِّه، فقال معاوية: حسبُك يا أبا بحر، فقد كفيتَ الشاهد والغائب.
قيل للأحنف: ممَّن تعلمتَ الحِلم؟ قال: مِن قيس بن عاصم المنقري، رأيتُه قاعدًا بفناء داره، محتبيًا بحمائل سيفِه، يُحدِّث قومه، حتى أُتي برجل مكتوف، ورجل مقتول، فقيل له: هذا ابنُ أخيك قَتَل ابنَك، فوالله ما حلَّ حُبوتَه، ولا قطع كلامه، ثم التفتَ إلى ابن أخيه، وقال: يا ابنَ أخي، أسأتَ إلى رَحِمك، ورميتَ نفسك بسهمك، وقتلت ابن عمِّك، ثم قال لابنٍ له آخر: قُمْ يا بني، فحلَّ كتاف ابن عمِّك، ووارِ أخاك، وسُقْ إلى أمِّه مائةَ ناقة دية ابنها، فإنها غريبة، ثم أنشأ يقول:إِنِّي امْرُؤٌ لاَ يَطَّبَى حَسَبِي
دَنَسٌ يُهَجِّنُهُ وَلاَ أَفْنُ
مِنْ مِنْقَرٍ فِي بَيْتِ مَكْرُمَةٍ
وَالْغُصْنُ يَنْبُتُ حَوْلَهُ الْغُصْنُ
خُطَبَاءُ حِينَ يَقُولُ قَائِلُهُمْ
بِيضُ الْوُجُوهِ مَصَاقِعٌ لُسْنُ
لاَ يَفْطِنُونُ لِعَيْبِ جَارِهُمُ
وَهُمُ لِحِفْظِ جِوَارِهِ فُطْنُ
♦ ولَمَّا عَزَم معاوية على البيعة ليزيدَ، كتب إلى زياد أن يوجِّه إليه بوفد أهل البصرة والكوفة، فتكلَّمتِ الخطباء في يزيد، والأحنفُ بن قيس ساكتٌ، فلمَّا فرغوا قال معاوية: قل يا أبا بحر، فإنَّ العيون إليك أشرعُ منها إلى غيرك، فقام الأحنف، فحَمِد الله وأثنى عليه، وصلَّى على نبيه - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثم قال:
يا أميرَ المؤمنين، إنَّك أعلمُنا بيزيد في ليله ونهاره، وإعلانه وإسراره، فإن كنتَ تعلمُه لله رِضًا فلا تشاورْ فيه أحدًا، ولا تُقِم له الخطباءَ والشعراء، وإن كنت تعلم بُعدَه من الله فلا تزودْه من الدنيا وترحل أنت إلى الآخرة، فإنَّك تصير إلى ﴿ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ﴾ [عبس: 34 - 36]، فكأنَّه أفْرَغ على معاوية ذَنوبَ ماءٍ بارد.
فقال له: اقعدْ يا أبا بحر، فإنَّ خِيَرة الله تجري، وقضاءَه يمضي، وأحكامه تنفذ، لا مُعقِّب لحُكمه، ولا رادَّ لقضائه، وإنَّ يَزيدَ فتًى بلوناه، ولم نجد في قريش فتًى هو أجدرُ بأن يجتمع عليه منه.
فقال: يا أمير المؤمنين: أنت تحكي عن شاهِد، ونحن نتكلَّم على غائب، وإذا أراد الله شيئًا كان.
♦سأل غيلان بن خرشة الأحنفَ بن قيس: ما بقاءُ ما فيه العرب؟ قال: إذا تقلَّدوا السيوف، وشدُّوا العمائم، وركبوا الخيل، ولم تأخذْهم حمية الأوغاد، قال غيلان: وما حمية الأوغاد؟ قال: أن يَعُدُّوا التواهبَ فيما بينهم ضَيْمًا.
♦ قال رجل للأحنف: دُلَّني على حمدٍ بلا مرزئة؟ قال: الخُلق السجيح، والكفُّ عن القبيح، ثم اعلموا أنَّ أدوى الداء اللِّسان البذيء، والخُلق الرديء.
وقال: مَن ظلم نفسه كان لغيرِه أظلمَ، ومَن هدم دِينه كان لمجدِه أهدم.
♦قال رجل في مجلس الأحنف بن قيس: ليس شيءٌ أبغض إليَّ من التَّمْر والزُّبد، فقال الأحنف: رُبَّ ملومٍ لا ذنبَ له.
يعزل الولاة ويُولِّيهم:
كان زياد بن أبيه يُقرِّب الأحنف ويُدنيه، فلمَّا مات زياد وولي ابنه عبيدالله لم يرفع به رأسًا، فتأخَّرت عنده منزلتُه، فلما وفد برؤساء العراق على معاوية أدخلهم عليه على مراتبهم عندَه، فكان الأحنف آخِرَ مَن أدخله عليه، فلمَّا رآه معاوية أجلَّه وأعظمه، وأدْناه وأكرمه، وأجلسه معه على الفراش، ثم أقبل عليه يحادثه دونهم، ثم شَرَع الحاضرون في الثناء على ابن زياد، والأحنف ساكت، فقال له معاوية: مالك لا تتكلَّم؟ قال: إن تكلمت خالفتُهم، فقال معاوية: أُشهِدكم أني قد عزلتُه عن العراق، ثم قال لهم: انظروا لكم نائبًا، وأجَّلهم ثلاثة أيام، فاختلفوا بينهم اختلافًا كثيرًا، ولم يذكر أحدٌ منهم بعد ذلك عبيدالله ولا طلبه أحدٌ منهم، ولم يتكلَّم الأحنف في ذلك كلمة واحدة مع أحد منهم.
فلما اجتمعوا بعدَ ثلاثٍ أفاضوا في ذلك الكلام، وكثر اللغط، وارتفعت الأصوات، والأحنف ساكت، فقال له معاوية: تكلَّم، فقال له: إن كنتَ تريد أن تولِّيَ فيها أحدًا من أهل بيتك، فليس فيهم مَن هو مثل عبيدالله، فإنَّه رجل حازم لا يسدُّ أحد منهم مسدَّه، وإن كنت تريد غيرَه، فأنت أعلم بقرابتك، فردَّه معاوية إلى الولاية، ثم قال له بينه وبينه: كيف جهلتَ مثل الأحنف؟ إنَّه هو الذي عزلَك وولاَّك، وهو ساكت؟! فعظُمت منزلة الأحنف بعد ذلك عند ابن زياد جدًّا.
♦ قال الأحنف: خير الإخوان مَن إذا استغنيت عنه لم يزدِك في المودة، وإن احتجتَ إليه لم ينقصك منها، وإن عثرتَ عضدك، وإن احتجت إلى مؤونته رفدك وأنشد:أَخُوكَ الَّذِي إِنْ تَدْعُهُ لِمُلِمَّةٍ
يُجِبْكَ وَإِنْ تَغَضَبْ إِلَى السَّيْفِ يَغْضَبِ
♦ حكى ابنُ أبي عائشة: أنَّ شابًّا كان يجالس الأحنف، ويطيل الصمت، فأَعجب ذلك الأحنف، فخلَتِ الحلقة يومًا، فقال له الأحنف: تكلَّم يا ابن أخي، فقال: يا عمِّ أرأيت لو أنَّ رجلاً سقط من شرف هذا المسجد، هل كان يضرُّه شيء؟ فقال: يا ابن أخي، ليتنا تركناك مستورًا، ثم تمثَّل بقول الأعور الشني[1]:وَكَائِنْ تَرَى مِنْ صَامِتٍ لَكَ مُعْجِبٍ
زِيَادَتُهُ أَوْ نَقْصُهُ فِي التَّكَلُّمِ
لِسَانُ الْفَتَى نِصْفٌ وَنِصْفٌ فُؤَادُهُ
فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ صُورَةُ اللَّحْمِ وَالدَّمِ
♦ قال الأحنف: إنَّ الله جعل أسعدَ عباده، وأرشدَهم لديه، وأحظاهم يوم القيامة - أبذلَهم للمعروف يدًا، وأكثرَهم على الإخوان فضلاً، وأحسنَهم له على ذلك شكرًا.
♦ جاء رجلٌ فشتم الأحنف، فسكت عنه، وأعاد فسكت، فقال الرجل: والْهفاه، ما يمنعه من أن يردَّ عليَّ إلا هواني عنده.
♦ قال الأحنف: لا صَدِيقَ لملول، ولا وفاءَ لكذوب، ولا راحة لحسود، ولا مروءة لدنيء، ولا زعامة لسيئ الخُلق.
♦ قال الأحنف لمعاوية: أخافك إنْ صدقتُك، وأخاف اللهَ إن كذبتُك.
♦ قال الأحنف: لقد اختلفْنا إلى قيس بن عاصم في الحِلم كما نختلف إلى الفقهاء في الفِقه.
وكان يقول: لا مروءةَ لكذوب، ولا سوادَ لبخيل، ولا ورعَ لسيئ الخُلق.
♦ وقال الأحنف: رُبَّ رجل لا تغيب فوائده، وإن غاب آخَرُ لا يسلم منه جليسه وإن احترس.
قال الأحنف بخراسان: يا بني تميم، تحابُّوا تجتمعْ كلمتُكم، وتباذلوا تعتدلْ أموالكم، وابدؤوا بجهاد بطونكم وفُروجكم يصلحْ لكم دينكم، ولا تَغلُّوا يَسلمْ لكم جهادكم.
♦ وقال: أسرع الناس إلى الفِتنة أقلُّهم حياءً من الفرار.
♦ قال الأحنف: السؤدد مع السواد - يريد أنَّ السيِّد يُعرف في حداثته وسواد رأسه ولحيته.
♦ قال الأصمعي: وَفَد الأحنف والمنذر بن الجارود إلى معاوية، فتهيَّأ المنذر، وخرج الأحنف على قَعود وعليه بَتٌّ، فكلَّما مرَّ المنذر قال الناس: هذا الأحنف، فقال المنذر: أراني تزينت لهذا الشيخ.
♦ قال رجل للأحنف: بِمَ سدتَ قومك؟ قال: بترْكي من الأمر ما لا يَعنيني، كما عناك من أمري ما لا يَعنيك.
♦ وأغلظ رجلٌ للأحنف في الكلام، وقال له: والله يا أحنف، لئن قلتَ لي واحدة لتسمعنَّ بدلها عشرًا، فقال له: إنَّك إن قلت لي عشرًا لا تسمع مني واحدة.
♦ كان معاوية يَأْذَن للأحنف أوَّلَ مَن يأذن له، فأذِن له يومًا، ثم أذِن لمحمد بن الأشعث، فأقبل حتى جلس بين معاوية والأحنف، فقال له معاوية: لقد أحسستَ من نفسك ذُلاًّ، إني لم آذَن له قبلك إلاَّ ليكونَ في المجلس دونك، وإنما كما نَملِك أموركم، كذلك نملك تأديبَكم، فأريدوا ما يُراد بكم، فإنه أبقى لنعمتكم، وأحسنُ لأدبكم.
♦ قال رجل لأحنف بن قيس: بأيِّ شيءٍ سُدتَ تميمًا، فوالله ما أنت بأجودِهم ولا أشجعهم، ولا أجملهم ولا أشرفهم؟! قال: بخلاف ما أنت فيه؟ قال: وما خلاف ما أنا فيه؟ قال: ترْكي ما لا يَعنيني من أمور الناس، كما عناك من أمري ما لا يعنيك.
♦ استعمل عمر بن عبدالعزيز رجلاً، فقيل له: إنَّه حديث السِّنّ، ولا نراه يضبط عملك، فأخذ العهد منه، وقال: ما أراك تضبط عملك لحداثتك، فقال الفتى:وَلَيْسَ يَزِيدُ الْمَرْءَ جَهْلاً وَلاَ عَمًى
إِذَا كَانَ ذَا عَقْلٍ حَدَاثَةُ سِنِّهِ
فقال عمر: صَدَق، وردَّ عليه عهده.