بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمةالحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فنبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد r. ذلك النبي الذي كان خلقه القرآن ]وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ[[القلم: 4] ذلك النبي الذي طهر الله باطنه وظاهره. ذلك النبي الذي كان قدوة حسنة بأخلاقه وأعماله.
حديثي إليكم أيها الأحبة عن موضوع كلنا بحاجة إليه، يحتاج إليه الرجل والمرأة. يحتاج إليه الغني والفقير، يحتاج إليه الرئيس والمرؤوس إنه «حسن الخلق» ذلك العمل الجليل الذي رفع الله به عبادًا فأسكنهم أعالي الجنان، ذلك العمل الذي هو أثقل ما يوضع في ميزان العبد يوم القيامة. كما قال رسول الله r«ما من شيء أثقل في الميزان من خلق حسن»[رواه الترمذي 1925 بسند صحيح].
بل إن صاحب الخلق الحسن يفوق درجات بعض العباد. قال r: «إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم» [رواه أبو داود: 4165 بسند صحيح].
وليبشر أصحاب الأخلاق الحسنة بالقرب من النبي r يوم القيامة. قال r: «إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا...» [رواه الترمذي: 1941].
وبين الرسول r أن الخيرية تكمن بعد تقوى الله في حسن الخلق فقال: «إن خياركم أحسنكم أخلاقًا» [رواه البخاري:5575].
بل جعل الرسول r من مقاصد رسالته الدعوة إلى الأخلاق الحسنة فقال: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» وفي رواية: «لأتمم صالح الأخلاق» [رواه أحمد: 8595 وصححه ابن عبد البر].
ولقد كان من دعائه r: «اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت» [رواه مسلم: 1290].
وحسن الخلق من أسباب دخول الجنة. قال r: «أعظم ما يدخل الناس الجنة: تقوى الله وحسن الخلق» [رواه الترمذي، وصححه الألباني في الصحيحة: 977].
وحسن الخلق من أسباب الزيادة في العمر والبركة فيه. قال r: «حسن الخلق وحسن الجوار يعمران الديار ويزيدان في الأعمار» [رواه أحمد: 24098 وصححه الألباني في صحيح الجامع 3767].
وليعلم المؤمن بأن حسن الخلق من أحب الأعمال إلى الله تعالى وعلى ذلك «أحب عباد الله إلى الله أحسنهم خلقًا» [رواه الطبراني وصححه الألباني في الصحيحة (432].
تعريف حسن الخلق:
قال بعضهم: هو بذل الندى، وكف الأذى، واحتمال الأذى.
وقيل: هو بذل الجميل، وكف القبيح.
وقال ابن تيمية: وجماع الخلق الحسن مع الناس أن تصل من قطعك بالسلام والإكرام والدعاء له والاستغفار والثناء عليه والزيارة له، وتعطي من حرمك من التعليم والمنفعة المال. وتعفو عمن ظلمك في دم أو مال أو عرض.
أيها الأحبة:
إننا نعيش في هذا الزمان أزمة في الأخلاق وزهدًا في التنافس عليها؛ بل إنك ترى بعض الناس يعيب على صاحب الأخلاق الحسنة ويستهزئ به لأجل تمسكه بأخلاق الإسلام.
وليس ذلك بغريب فنحن في زمن الغربة.
ومن الغريب والعجيب أن المقياس عند الناس في تقييمهم للناس ليس هو على حساب الدين والخلق؛ بل المقياس على مظهر الإنسان ووظيفته وماله والشاعر يقول:
وما الحسن في وجه الفتى شرف له**إذا لم يكن في فعله والخلائق
فما الفائدة من جمال الثوب وزينة الظاهر إذا لم تكن هناك أخلاق الإسلام.
ليس الجمال بأثواب تزيننا**إن الجمال جمال العلم والأدب
إننا بحاجة لتصحيح المفاهيم الخاطئة في مجتمعنا، وأن نُبصر الناس بالمبادئ التي جاء بها رسول الأمة r.
أخي الحبيب:
إن هناك أسبابًا تعين بإذن الله تعالى على التحلي بحسن الخلق فمنها:
1- أن يستشعر المرء أن أحب الناس إلى الله هو أحسنهم خلقًا.
2- أن يتفكر في الثواب المترتب على الالتزام بحسن الخلق.
3- أن يعلم الإنسان أن صاحب الخلق الحسن سائر على هدي الرسول r الذي وصفه الله بقوله: ]وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ[[القلم: 4].
4- أن يتذكر الإنسان أن حسن الخلق يحتاج إلى مجاهدة وصبر ]وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا[[العنكبوت: 69]، فلن يتغير الإنسان من سوء الخلق إلى حسن الخلق بين يوم وليلة؛ بل الأمر يحتاج إلى صبر عظيم:
وقل من جد في أمر تطلبه**واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر
5- النظر في سيرة الرسول r يُعين على تربية النفس على حسن الخلق، فاقرأ في سيرته لترى العجب العجاب.
فهو ليس العابد الذي تفطرت قدماه من كثرة العبادة فحسب؛ بل هو أيضًا أحسن الناس خلقًا، تقول عائشة رضي الله عنها: «لم يكن رسول الله r فاحشًا ولا متفحشًا ولا صخابًا في الأسواق ولا يجزي بالسيئة ولكن يعفو ويصفح»[رواه الترمذي: 1939 وقال: حسن صحيح].
وتأمل في حياة الرسول r لكي ترى القدوة الحسنة في كل شيء ]لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا[[الأحزاب: 21].
وإليك هذه الأحاديث التي تبين شيئًا يسيرًا من عظمة الخلق النبوي: كان كثير الابتسامة، يمازح أصحابه ولا يقول كذبًا، يزور أصحابه، يساعد المحتاج، تأتيه الجارية فتأخذ بيده فيذهب معها ليقضي لها حاجتها، يداعب زوجاته، وفي إحدى الغزوات قال للصحابة: تقدموا، ثم قال لعائشة: سابقيني، فتسابقا، فسبقته عائشة رضي الله عنها، وبعد زمن يقول لها الرسول r: سابقيني فسبقها ثم قال: هذه بتلك وصدق الله ]وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ[[القلم: 4].
وكان يسلم على الصبيان، وكان يردف خلفه، ولم يكن يتميز بلباس بين أصحابه بل يدخل الأعرابي فيقول: أيكم محمد.
وكان شديد الحياء، وكان أجود الناس، وما سئل عن شيء فقال: لا. وكان يحب المساكين والفقراء. وكان طويل الصمت، وكان يقول للخادم: ألك حاجة، وكان لا يرد الطيب، وكان يقبل الهدية ويثيب عليها، وكان يأتي ضعفاء المسلمين ويزورهم، ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم، وكان يجلس على الأرض، ويأكل على الأرض، ويجيب الدعوة على خبز الشعير، وكان ينام على الحصير حتى أثر على جنبه الشريف، وكان يركب الحمار، ويخصف نعليه، وكان يعرف بريح الطيب إذا أقبل، وكان يخدم نفسه، وكان يكثر الذكر، وكان طاهر اللسان ما سب أحدًا صلوات ربي وسلامه عليه» فهذه نماذج من أخلاقه فأين نحن منها؟
إن المؤمن الصادق هو من يقتدي بالرسول r في أخلاقه كما يقتدي به في عبادته.
6- القراءة في سير السلف وأخبارهم تدعو إلى حسن الخلق.
اقرأ التاريخ إذ فيه العبر***ضل قوم ليس يدرون الخبر
ولئن فاتتك رؤية السلف فهذه أخبارهم مدونة فأين من يرتاد؟.
فاتني أن أرى الديار بعيني***فلعلي أرى الديار بسمعي
والمقام يطول بذكر أخبارهم، ولكن في جولة سريعة لعل فيها ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
فهذا أبو بكر t وخوفه من لسانه، يمسكه ويقول: هذا أوردني الموارد. فعجبًا له ما أعلى قدره.. وانظر إلى خلقه في الإنفاق فهو صاحب الجود والإنفاق يأتي بماله كله للصدقة فيقول له الرسول r: «ما تركت لأهلك»؟ فيقول: تركت لهم الله ورسوله.
وها هو عمر بن الخطاب صاحب خُلق «العدل» الذي رآه أحد الناس نائمًا تحت شجرة. فقال: «حكمت فعدلت فأمنت فنمت».
وعثمان طبق أروع الأمثلة في خلق الحياء حتى إن الملائكة تستحي منه.
وعلي ذلك البطل الشجاع الذي كان أسدًا من أسود الإسلام فما أروع خلق الشجاعة لديه!.
وأبو عبيدة أمين هذه الأمة، إنها الأمانة يا أمة الإسلام.
وهذا الزبير يهاجر وعمره ثمان عشرة سنة، وكان عمه يعذبه ليعود للكفر، ويعلقه ويُدخن عليه، ولكن الزبير تربى على الصبر، فصبر ولم يرجع بل قال: لا أرجع للكفر أبدًا.
* * * *
فأين الصابرون على الابتلاء؟
وهذا أبو سفيان ابن عم الرسول r يتربى على التقوى، فلما حضرته الوفاة قال لأهله: لا تبكوا علي فإني لم أتنطف بخطيئة منذ أسلمت.
وهذا عبد الله بن رواحة الذي تربى على دوام العبادة لله تعالى، قال أبو الدرداء: إن كنا لنكون مع الرسول r في السفر في اليوم الحار ما في القوم أحد صائم إلا رسول الله r وعبد الله بن رواحة، وقالت زوجته: كان ابن رواحة إذا أراد أن يخرج من بيته صلى ركعتين، وإذا دخل صلى ركعتين، لا يدع ذلك أبدًا.
إنها الهمة العالية في العبادة لله عز وجل
وهذا سلمان الفارسي يشتمه رجلٌ فيقول سلمان: إن خفت موازيني فأنا شر مما تقول، وإن ثقلت موازيني لم يضرني ما تقول.
وسب رجل ابن عباس، فقال: هل لك حاجة فنقضيها، فاستحيا الرجل.
قال محمد بن منذر: كنت أمشي مع الخليل بن أحمد فانقطع نعلي فخلع نعله، فقلت ما تصنع؟ قال: أواسيك في الحفاء.
إنها روائع الأخوة
وقال الحسن: إن كان الرجل ليخلف أخاه في أهله بعد موته أربعين سنة.
وهذا أحد السلف يأتي إلى أخيه يطلبه مالاً فدخل ذلك الرجل داره ليحضر المال ثم أعطاه، ثم دخل يبكي فقالت له زوجته: لماذا تبكي لو أنك اعتذرت منه. فقال: إنما أبكي لأنني لم أتفقد حاله حتى احتاج أن يقول لي ذلك.
وتأمل هذا الموقف: خرج إبراهيم بن أدهم ومعه ثلاثة نفر، فدخلوا مسجدًا في بعض القرى وكان البرد شديدًا، وليس للمسجد باب، فلما ناموا، قام إبراهيم فوقف على الباب إلى الصباح، فقالوا له: لِمَ لَمْ تنم؟ قال: خشيت أن يصيبكم البرد. فقمت مقام الباب.
الله أكبر...!
ما أعظم هذه الخلائق.