علاج المزاح المحرم
لا شك أن المزاح المحرم معصية عظيمة، وأن علاج كل معصية يكمن في تأملها ومعرفة مغبتها واستشعار عظمة من يعصى بها ومن المعلوم أن اقتراف السيئة يعد من سوء خلق صاحبها سواء مع خالقه أو مع الناس، يقول أحد السلف: مساوئ الأخلاق تعالج بمعجون العلم والعمل، فلابد أن يعلم المازح خطر هذا المزاح، وأن يعمل على اجتنابه ما استطاع عن طريق ما يلي:
أن يحفظ الإنسان لسانه، فمن أعظم أسباب السلامة حفظ اللسان، ومن أعظم أبواب الوقاية الصمت في وقته.
احفظ لسانك أيها الإنسان | | لا يلدغنك إنه ثعبان |
كم في المقابر من قتيل لسانه | | كانت تخاف لقاءه الشجعان |
ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: «من يحفظ لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة». ولو حاسب الإنسان نفسه وتأمل كل كلمة قبل أن يخرجها من فمه لاستقام حاله ولصلحت أعماله ولكن!!
ولهذا جاء عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يستقيم إيمان العبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه».
وجاء في الحديث عن عقبة بن عامر قال: قلت: يا رسول الله ما النجاة؟ قال: «أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك».
والمرء بأصغريه قلبه ولسانه فليتعاهدهما وليكبح جماحهما، ومن كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه قلت هيبته، ولئن كان القلب هو أمير الجوارح فإن اللسان هو الجلاد، فيه يكون الإنسان رفيعا وبه يكون الإنسان وضيعا، وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء تُكَفِّر اللسان تقول: اتق الله فينا فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا».
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله،فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي».
وورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل: أمسك عليك لسانك، فقال: وهل نحن مؤاخذون بما نقول؟ قال: «ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس على وجهوههم في النار إلا حصائد ألسنتهم».
وورد أن عمر دخل على أبي بكر وهو يجبذ لسانه فقال له: مهْ غفر الله لك؟ فقال أبو بكر: هذا الذي أوردني الموارد.
قال ابن مسعود: ما شيء أحوج إلى طول سجن من لساني.
قال أبو الدرداء: أنصف أذنيك من فيك، فإنما جعلت لك أذنان وفم واحد لتسمع أكثر مما تتكلم.
واعلم أن خطر اللسان عظيم جدا، وخطره أكثر من غيره من الأعضاء، فالعين لا تصل إلى غير الصور والألوان، والأذن لا تصل إلى غير الأصوات، واليد لا تصل إلى غير المحسوسات، أما اللسان فيصول ويجول في كل شيء، وبه الرابح من ذي الخسران، والمؤمن من ذي الفجور والعصيان، لذلك يقول مخلد بن الحسين: ما تكلمت منذ خمسين سنة بكلمة إلا وقد نظرت في عواقبها.
فما أحوجنا إلى حفظ ألسنتنا وكفها عن الكلام فيما لا يعنيها، فإذا حصل هذا فلا مجال للمزاح المحرم إذن!
هذا، وما أطلت في هذه النقطة إلا لأهميتها والله المستعان.
ومن العلاج أيضا أن يستشعر العبد أنه بهذا المزاح المذموم يتعرض لسخط الله ومقته، وأن قوله وفعله مسجل عليه في كتاب ]لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا[. ويعلم أنه ]مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ[.
ومن تجرأ على إسخاط الله فهو سفيه لا يعرف مصلحة نفسه ولا الطريق لنجاتها وهو غير راشد في تصرفه، والله -سبحانه وتعالى- له سطوات وانتقامات ليست من الظالمين ببعيدة فليحذر كل إنسان أن يتعرض لغضب الله، والمعافى من عافاه الله.
أن يعلم أنه يهدي غيره من حسناته؛ لأن المزاح المحرم منه ما يكون غيبة وأذية وظلما، والظالم يوم القيامة يؤخذ من حسناته وتعطى للمظلوم، فإن انتهت حسناته أخذ من سيئات المظلوم فطرحت عليه ثم طرح في النار وبئس القرار، ولا أتوقع أن عاقلا يرضى بأن يعطي غيره من حسناته، لأنه محتاج إلى الحسنة الواحدة في ذلك اليوم العصيب ]وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[ [فصلت: 19-20].
فلا تعرض نفسك أخي إلى زوال حسناتك وذهابها إلى غيرك وأنت في أشد الحاجة إليها غدا.
معاملة الناس بمثل ما تحب أن يعاملوك به: فبعض الناس أناني يريد الناس أن يعاملوه بأفضل معاملة ولكن لا يهمه أن يعاملهم بأي معاملة ولو كانت سيئة، وهذا من الخطأ فإذا أردت الناس أن يحترموك فاحترمهم، وإذا أردت الناس أن يساعدوك فساعدهم وهكذا.
لتكن منصفا من نفسك، فإما أن تكف عن مزحك وسخريتك بالناس أو ترضى بأن يسخروا منك، ولا شك أن الأول أسهل.
فإذا رغبت في العلاج من هذا الداء فتذكر هذه القاعدة دائما وضعها نصب عينيك «عامل الناس بمثل ما تحب أن يعاملوك به» ومن الجفاء أن تعامل الناس بنقيض ما يعاملوك به، وهذا من التطفيف في الكيل والبخس من الوزن، والله يقول: ]وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ[ [المطففين: 1-3].
يقول عمر بن الخطاب في خطبته: لا يعجبنكم من الرجل طفطفته، ولكن من أدى الأمانة وكف عن أعراض الناس فهو الرجل.
ومن أعظم العلاج الخوف من الله ومراقبته وتقواه، فإن تقوى الله تعالى تمنع صاحبها من ارتكاب المعاصي، وتكون واقيا له من الانغماس في الشهوات؛ لأن العبد كلما همَّ بمعصية جعل أمامه ربه كأنه يراه فخاف منه فانزجرت نفسه عن الوقوع فيما نهى عنه.
وإذا خلوت بريبة في ظلمة | | والنفس داعية إلى العصيان |
فاستحي من نظر الإله وقل لها | | إن الذي خلق الظلام يراني |
كذلك كثيرا ما يوصينا الله في القرآن الكريم بالتحلي بها ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ[ [آل عمران: 102].
ويقول عليه الصلاة والسلام: «اتق الله حيثما كنت». يقول أحد السلف: من قوي إيمانه انكف عن المزاح المذموم لسانه.
الاشتغال بعيوب النفس عن عيوب الغير، فهو علاج لكثير من آفات القلب واللسان ومنها المزاح المذموم.
يقول أحد السلف: إذا عرض لك المزاح بذكر عيوب أخيك فتذكر عيوب نفسك.
وقال ابن عباس: إذا أردت أن تذكر عيوب صاحبك فاذكر عيوبك.
ويقول بعضهم: أدركنا السلف وهم لا يرون العبادة في الصوم والصلاة، ولكن في الكف عن أعراض المسملين حتى ولو على سبيل المزاح.
ما أحسن الاشتغال بعيوب النفس، وطوبى لمن شغلته عيوبه عن عيوب غيره، وكان بلسان حاله يقول:
لنفسي أبكي لست أبكي لغيرها
| |
| لنفسي عن نفسي من الناس شاغل شاغل |
|
|
|
بعض الناس -هداهم الله- يرون القذاة في أعين إخوانهم ولا يرون الجذع معترضا في أعينهم فهؤلاء غير منصفين:
فإن عبت قوماً بالذي فيك مثله | |
| فكيف يعيب الناس من هو أعور |
وإن عبت قوما بالذي ليس فيهم | |
| فذلك عند الله والناس أكبر |
|
|
|
وبعض الناس يغضون عن عيوب من يحبون، ويختلقون عيوبا فيمن لا يودون حتى ولو على سبيل المزاح.
وعين الرضا عن كل عيب كليلة | |
| ولكن عين السخط تبدي المساويا |
|
|
|
فيا ليت العيون تتساوى وتغض عن عيوب الناس فذلك هو خلق المرسلين.
يقول الحسن: يا ابن آدم لن تنال حقيقة الإيمان حتى لا تعيب الناس بعيب هو فيك، وتبدأ بذلك العيب من نفسك فتصلحه، فما تصلح عيبا إلا ترى عيبا آخر فيكون شغلك في خاصة نفسك. وقيل لربيع بن خيثم: ما نراك تعيب أحدا ولا تذمه فقال: ما أنا على نفسي براض فأتفرغ إلى غيرها. ولقد أحسن القائل:
شر الورى من يعيب الناس مشتغلا | |
| مثل الذباب يراعي موضع العلل |
|
|
|
وقال آخر:
| إذا ما ذكرت الناس فاترك عيوبهم | |
| فلا عيب إلى دون ما منك يذكر | |
| فإن عبت قوما بالذي هو فيهم | |
| فذلك عند الله والناس منكر | |
|
|
|
|
|
وقال آخر:
يمنعني من عيب غيري الذي | | أعرفه عندي من العيب |
عيبي لهم بالظن مني بدا | | ولست من عيبي في ريب |
إن كان عيبي غاب عنهم فقد | | أحصى عيوبي عالم الغيب |
وقال آخر:
أرى كل إنسان يرى عيب غيره | | ويعمى عن العيب الذي هو فيه |
وما خير من تخفى عليه عيوبه | | ويبدو له العيب الذي بأخيه |
وكيف أرى عيباً وعييبي ظاهر | | وما يعرف السوءات غير سفيه |
الصحبة الطيبة والجلساء الصالحون ومخالطتهم هي نوع من العلاج فهم يعينون صاحبهم على الطاعة ويحذرونه عند الغفلة، ولو لم يكن منهم إلا أنهم "هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم" كما قال عليه الصلاة والسلام لكفى.
وحسبك في مدحهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شبههم بحامل المسك الذي "إما يحذيك أو تبتاع منه أو تجد منه ريحا طيبة".