منتدى سيف الله للإبداع

أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم, أنت لم تقم بتسجيل الدخول بعد, يشرفنا أن تقوم بالدخول وذلك بالضغط على زر الدخول إن كنت عضوا بالمنتدى.أو التسجيل إن كنت ترغب بالإطلاع على مواضيع المنتدى والمشاركة في أقسام المنتدى فقط إضغط على زر التسجيل و شكرا لك

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتدى سيف الله للإبداع

أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم, أنت لم تقم بتسجيل الدخول بعد, يشرفنا أن تقوم بالدخول وذلك بالضغط على زر الدخول إن كنت عضوا بالمنتدى.أو التسجيل إن كنت ترغب بالإطلاع على مواضيع المنتدى والمشاركة في أقسام المنتدى فقط إضغط على زر التسجيل و شكرا لك

منتدى سيف الله للإبداع

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى سيف الله للإبداع

منتدى سيف الله للإبداع


2 مشترك

    حقائق غائبة حول استشهاد الحسين - رضي الله عنه - وأحداث كربلاء

    SeIfElLaH
    SeIfElLaH
    مجلس المدراء
    مجلس المدراء


    الأوسمة : حقائق غائبة حول استشهاد الحسين - رضي الله عنه - وأحداث كربلاء 0ea39110
    عدد المساهمات : 4497
    نقاط : 6387
    تاريخ التسجيل : 22/03/2010
    العمر : 47

    حقائق غائبة حول استشهاد الحسين - رضي الله عنه - وأحداث كربلاء Empty حقائق غائبة حول استشهاد الحسين - رضي الله عنه - وأحداث كربلاء

    مُساهمة من طرف SeIfElLaH الجمعة أكتوبر 14, 2016 7:26 pm


    حقائق غائبة حول استشهاد الحسين - رضي الله عنه - وأحداث كربلاء Basmala

    حقائق غائبة حول استشهاد الحسين - رضي الله عنه - وأحداث كربلاء


    الموضوع يتم طرحه حاليا في صفحة الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين


    حقائق غائبة حول استشهاد الحسين - رضي الله عنه - وأحداث كربلاء Do



    (الحلقة 1) خروج الحسين بن علي رضي الله عنهما
    الكاتب: الدكتور علي محمد الصلابي




    حقائق غائبة حول استشهاد الحسين - رضي الله عنه - وأحداث كربلاء Do


    أولاً: اسمه ونسبه وشيء من فضائله:


    هو أبو عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم سبط رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وريحانته ومحبوبه، ابن بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاطمة - رضي الله عنها -، كان مولده سنة أربع للهجرة، ومات ورضي الله عنه قتيلاً شهيداً، في يوم عاشوراء من شهر المحرم سنة إحدى وستين هجرية بكربلاء من أرض العراق فرضي الله عنه وأرضاه.
    وقد وردت في مناقبه وفضائله أحاديث كثيرة منها:

    1- ما رواه أحمد بإسناده إلى يعلي العامري - رضي الله عنه - أنه خرج مع رسول الله صلى الله علسه وشلم يعني إلى طعام دعوا له، قال: فاستمثل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمام القوم، وحسين مع غلمان يلعب فأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذه فطفق الصبي يفر هنا مرة وهاهنا مرة، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يضاحكه حتى أخذه قال: فوضع إحدى يديه تحت قفاه، والأخرى تحت ذقنه، ووضع فاه وقبله، وقال: ((حسين مني وأنا من حسين، اللهم أحِبَّ من أحَبَّ حسيناً، حسين سبط من الأسباط)).

    2- ما رواه البخاري بإسناده إلى ابن عمر قد سأله رجل من العراق عن المُحْرِمِ يقتل الذباب، فقال - رضي الله عنه -: أهل العراق يسألون عن الذباب، وقد قتلوا ابن ابنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -!، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((هما ريحانتاي من الدنيا)).

    3 ـ وروى أحمد بإسناده إلى أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة)).

    وغير ذلك من الأحاديث، وفي النية إفراد كتاب مستقل عن أبي عبد الله الشهيد الحسين بن علي - رضي الله عنهما - بإذن الله - تعالى -.

    ثانياً: الأسباب التي أدت إلى خروج الحسين، والفتوى التي بنى عليها خروجه - رضي الله عنه -:


    كان موقف الحسين من بيعة يزيد بن معاوية هو موقف المعارض، وشاركه في المعارضة عبد الله بن الزبير، والسبب في ذلك:

    حرصهما على مبدأ الشورى، وأن يتولى الأمة أصلحها، وتلك الممانعة الشديدة من قبل الحسين وابن الزبير، قد عبرت عن نفسها بشكل عملي فيما بعد، فالحسين - رضي الله عنه - كما مر معنا، كان معارضاً للصلح، والذي حمله على قبوله هو متابعة أخيه الحسن بن علي، ثم إن الحسين بن علي استمر على صلاته بأهل الكوفة، وقد كان يعدهم بالمعارضة، ولكن بعد وفاة معاوية، والدليل على ذلك أنه بمجرد وفاة معاوية سارع زعماء الكوفة بالكتابة إلى الحسين، وطلبوا منه المسير إليهم على وجه السرعة، ومن الأسباب التي أدت إلى خروج الحسين - رضي الله عنه -:

    1 ـ هو إرادة الله - عز وجل - وأن ما قدره سيكون وإن أجمع الناس كلهم على رده فسينفذه الله، لا راد لحكمه ولا لقضائه - سبحانه وتعالى -.

    2 ـ قلب الحكم من الشورى إلى الملك الوراثي:
    ومن الأسباب: ما كان من عدم التزام معاوية بشروط الحسن في الصلح والتي من ضمنها ما ذكره ابن حجر الهيثمي:..بل يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين.

    ورأى الحسين في محاولة معاوية توريث الحكم من بعده لابنه يزيد مخالفة واضحة لمنهج الإسلام في الحكم، ومع ذلك فإنه لم يهتم بالخروج على معاوية؛ نظراً لمبايعته له بالخلافة، فظل على عهده والتزامه.

     ولكن بعد وفاة معاوية تغير الموقف، فالحسين لم يعد في عنقه بيعة توجب عليه السمع والطاعة، ويدل على ذلك محاولة والي المدينة الوليد بن عتبة أخذ البيعة من الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير، وخروجهما بعد ذلك إلى مكة دون أن يأخذ بيعتهما.


    إن موقف الحسين وفتواه ضد الحكم الأموي مرت بمرحلتين:


    الأولى: مرحلة عدم البيعة ليزيد، وذهابه إلى مكة، وهذه المرحلة أسس فيها الحسين موقفه السياسي من حكم يزيد، بناء على نظرته الشرعية لحكم بني أمية، فهو يرى عدم جواز البيعة ليزيد، وذلك لسببين، فعلى الصعيد الشخصي فإن يزيد لا يصلح خليفة للمسلمين؛ نظراً لانعدام توفر شرط العدالة فيه، كما أن الحسين أفضل وأحق منه بمنصب الخلافة؛ فهو أكثر منه علماً، وصلاحاً وكفاءة وأكثر قبولاً لدى الناس من يزيد، أما الصعيد السياسي فلانعدام شرط الشورى، والاستئثار بالسلطة للحكم الأموي، والذي يخالف المنهج الإسلامي في الحكم، ولم يغب عن الحسين - رضي الله عنه - قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية))، ولكن فهمه لهذا الحديث أنه في حق من كان صالحاً للخلافة وأهلاً لها، وكان عن شورى المسلمين.

    وعدم مبايعة الحسين ليزيد كانت تعني عدم إعطاء الشرعية للحكم الأموي وهو أمر كان الأمويين يحرصون عليه أشد الحرص، وقد كتب يزيد إلى واليه في المدينة بأخذ البيعة من الحسين وابن عمر وابن الزبير، وأن يأخذهم بالشدة حتى يبايعوا، وفي نفس الوقت فإن عدم البيعة يسهل له حرية العمل السياسي، واتخاذ القرار الذي يراه مناسباً لمقاومة الحكم الأموي.

    المرحلة الثانية: وهي مرحلة العمل على مقاومة الحكم الأموي وطرح نفسه بديلاً للسلطة الأموية في دمشق، وهو ما يعبر عنها الفقهاء بالخروج على الإمام، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الحسين قد مكث في مكة بضعة أشهر قبل خروجه إلى العراق، فقد قدم إلى مكة في الثالث من شعبان سنة: 60هـ للهجرة، وخرج إلى العراق في الثامن من ذي الحجة من نفس السنة، وفي هذه الفترة كان - رضي الله عنه - يراسل أهل العراق، وتقدم إليه الوفود، حتى رأى أنه لا بد من مقاومة الظلم وإزالة المنكر وأن هذا أمر واجب عليه، وكانت شيعته بالعراق على اتصال به وتمت بينهم مراسلات، وقد وصل الحسين بن علي إلى قناعة راسخة، وبنى قراره السياسي على فتوى اقتنع بها في مقاومته للحكم الأموي، فهو يرى أن بني أمية لم يلتزموا حدود الله في الحكم، وخالفوا منهج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدين، وبنى الحسين - رضي الله عنه - فتواه بتسلسل منطقي شرعي، فاستبداد بني أمية، والشك في كفاءة وعدالة يزيد، توجب عدم البيعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على علماء الأمة، ومن أكبر المنكر حكم بني أمية واستبدادهم، وبما أن الحسين ليس في عنقه بيعة، وهو أحد علماء الأمة وسادتها، فهو أحق الناس بتغيير هذا المنكر، وعلى ذلك فليس موقفه خروجاً على الإمام، بل هو تغيير المنكر، ومقاومة للباطل، وإعادة الحكم إلى مساره الإسلامي الصحيح، ومما يدل على حرص الحسين - رضي الله عنه - على أن تكون فتواه وتحركاته السياسية في مقاومته للحكم الأموي متماشية مع تعاليم الإسلام وقواعده، امتناعه عن البقاء في مكة عندما عزم على مقاومة يزيد حتى لا تستحل حرمتها وتكون مسرحاً للقتال وسفك الدماء، فيقول لابن عباس: لأن أقتل بمكان كذا وكذا أحب إلي من أن أقتل بمكة وتُستحل بي.

    ثالثاً: عزم الحسين على الخروج إلى الكوفة ونصائح الصحابة والتابعين ورأيهم في خروج الحسين إلى الكوفة:

    1 ـ عزم الحسين على الخروج إلى الكوفة:


    بعد توافد الرسائل من زعماء الكوفة على الحسين - رضي الله عنه - والتي تطلب منه المسارعة في القدوم إليهم، ولما كان العدد مشجعاً أراد أن يطَّلع على حقيقة الأمر، فبعث ابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب؛ ليستجلي له حقيقة الخبر، ثم يكتب إليه بواقع الحال، فإن كان ما يقولون حقاً قدم عليهم، خرج مسلم بن عقيل بصحبة عبد الرحمن بن عبد الله الأرحبي، وقيس بن مسهر الصيداوي، وعمارة بن عبيد السلولي، فلما وصل مسلم المدينة أخذ معه دليلين، وفي الطريق إلى الكوفة تاهوا في البرية ومات أحد الدليلين عطشاً، وكتب مسلم إلى الحسين يستعفيه؛ وذلك بسبب إحساسه النفسي لمدى الصعوبات التي تنتظره في الكوفة، ولكن الحسين رفض طلبه، وأمره بمواصلة المسير نحو الكوفة، ولما وصل مسلم بن عقيل إلى الكوفة نزل عند المختار بن أبي عبيد في أول قدومه، فلما جاء ابن زياد، وتولى إمارة الكوفة، وأخذ يشدد على الناس انتقل مسلم عند هانئ بن عروة؛ وذلك خشية انكشاف أمره، ثم لمكانة هانئ وأهميته كأحد أعيان الكوفة، ولما بدا الشك يساور ابن زياد من هانئ بن عروة خشي مسلم بن عقيل على نفسه، وانتقل أخيراً ولفترة قصيرة جداً عند مسلم بن عوسجة الأسدي -أحد دعاة الشيعة-، ولما بلغ أهلَ الكوفة قدومُ مسلم بن عقيل قدموا إليه فبايعه اثنا عشر ألف، وتمت تلك المبايعة بصورة سرية مع تحرص شديد، ولما تأكد لمسلم بن عقيل رغبة أهل الكوفة في الحسين وقدومه إليهم كتب إلى الحسين: أما بعد، فإن الرائد لا يكذب أهله، إن جميع أهل الكوفة معك، فأقبِلْ حين تنظر في كتابي، وهنا تأكد للحسين صدق نوايا أهل الكوفة، وأنه ليس عليهم إمام كما ذكروا من قبل، فلا بد في هذه الحالة أن يفي لهم بما وعدهم به، حين كتب إلى أهل الكوفة: وقد بعثت إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي، وأمرته أن يكتب إليَّ بحالكم وأمركم ورأيكم، فإذا كتب إلي أنه قد أجمع رأي ملئكم وذوي الفضل والحجى منكم على مثل ما قدمت به رسلكم، وقرأته في كتبكم، أقدم عليكم -إن شاء الله-، فلما وصل إلى الحسين بن علي كتاب مسلم بن عقيل الذي طلب منه القدوم إلى الكوفة وأن الأمر مهيأ لقدومه، تجهز الحسين بن علي، وعزم على المضي إلى الكوفة بأهله وخاصته.

    2 ـ مواقف الصحابة والتابعين من خروج الحسين:


    أ- محمد بن الحنفية: لما بلغ محمد بن الحنفية عزم أخيه الحسين على الخروج إلى الكوفة، قدم عليه وقال: يا أخي أنت أحبُّ الناس إليَّ، وأعزهم عليَّ، ولست أدخر النصيحة لأحد من الخلق أحقُّ بها منك، تنحَّ ببيعتك عن يزيد بن معاوية وعن الأمصار ما استطعت، ثم ابعث رسلك إلى الناس فادعهم إلى نفسك، فإن بايعوا لك حمدت الله على ذلك، وإن أجمع الناس على غيرك لم يُنقصِ اللهُ بذلك دينك ولا عقلك، ويُذهب به مروءتك ولا فضلك؛ إني أخاف أن تدخل مصراً من هذه الأمصار وتأتي جماعة من الناس فيختلفون بينهم، فمنهم طائفة معك، وأخرى عليك فيقتتلون فتكون لأول الأسنة، فإذا خير هذه الأمة كلها نفساً، وأباً، وأماً، أضيعها دماً، وأذلها أهلاً.
    فقال الحسين: فإني ذاهب يا أخي، قال: فانزل مكة فإذا أطمأنت بك الدار فسبيل ذلك، وإن نبَتْ بك لحقت بالرمال وشعف الجبال، وخرجت من بلد إلى بلد حتى تنتظر إلى ما يصير أمر الناس، وتعرف عند ذلك الرأي، فإنك أصوب ما تكون رأياً وأحزمه عملاً حين تستقبل الأمور استقبالاً، ولا تكون الأمور عليك أبداً أشكل منها حين تستدبرها استدباراً.
    قال: يا أخي قد نصحت فأشفقت وأرجو أن يكون رأيك سديداً.
    وجاء في رواية:.. فإن الحسين حين عزم على الخروج بعث إلى بني عبد المطلب في المدينة يدعوهم للخروج معه، فقدم عليه من خف منهم، وتبعهم محمد بن الحنفية فأدرك الحسين بمكة، فأعلمه أن الخروج ليس له برأي يومَه هذا، فأبى الحسين أن يُقبل في نفسه على أخيه محمد، وقال: ترغب بولدك عن موضع أُصابُ فيه؟ فقال محمد: وما حاجتي أن تصاب، ويصابون معك، وإن كانت مصيبتك أعظم عندنا منهم.

    ب- عبد الله بن عباس - رضي الله عنه -: ولما بلغ خبر عزمه على الخروج إلى ابن عمه عبد الله بن عباس أتاه وقال: يا ابن عم، إنه قد أرجف الناس أنك سائر إلى العراق، فبيِّن لي ما أنت صانع؟ قال: قد أجمعت المسير في أحد يومَي هذين إن شاء الله - تعالى -، فقال له ابن عباس: أخبرني إن كان عدوك بعد ما قتلوا أميرهم، ونفوا عدوهم، وضبطوا بلادهم، فسر إليهم، وإن كان أميرهم حياً وهو مقيم عليهم، قاهر لهم، وعماله تجبي بلادهم، فإنهم إنما دعوك للفتنة والقتال، ولا آمنُ عليك أن يستفزوا عليك الناس، ويقلبوا قلوبهم عليك، فيكون الذي دعوك أشد الناس عليك.

    فقال الحسين إني أستخير الله وأنظر ما يكون.
    ولكن ابن عباس أدرك من كلام الحسين واستعداده أنه عازم على الخروج ولكنه يحاول إخفاء الأمر عنه؛ لعلمه بعدم رضاه عن ذلك، لذا جاء ابن عباس إلى الحسين من الغد فقال: يا ابن عم إني أتصبر ولا أصبر، وإني أتخوف عليك في هذا الوجه الهلاكَ، إن أهل العراق قوم غدرٌ فلا تغترن بهم، أقم في هذا البلد حتى ينفي أهل العراق عدوهم ثم أقدم عليهم، وإلا فسر إلى اليمن؛ فإن به حصوناً وشعاباً، ولأبيك به شيعةً، وكن عن الناس بمعزل، واكتب إليهم وبث دعاتك فيهم، فإني أرجو إذا فعلت ذلك أن يكون ما تحب.
    فقال الحسين: يا ابن عم، والله إني لأعلم أنك ناصح شفيق، ولكني قد أزمعت المسير.

    فقال له: فإن كنت ولا بد سائراً فلا تسر بأولادك ونسائك، فوالله إني لخائف أن تقتل كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه... إلى أن قال: فوالله الذي لا إله إلا هو لو أعلم أنك إذا أخذت بشعرك وناصيتك حتى يجتمع عليَّ وعليك الناس أطعتني وأقمت لفعلت ذلك.

    وهكذا نجد أن محاولات ابن عباس لم تُجدِ في إقناع الحسين على الرغم من أنه أظهر له -لما علم تصميمه على عدم رضاه بيزيد وضرورة العمل على تغييره- أنه لا يقف عند فكرة الحسين تماماً، ولكنه يوضح له عوامل فشل ما هو سائر لتحقيقه، ويطرح له البدائل التي ربما تكون أقرب لتحقيق ما يصبو إليه، وذلك بالانتظار حتى يقوم أهل العراق بالسيطرة التامة على إقليمهم ويحرروه من سلطان بني أمية، وهو يدرك أنهم عاجزون عن ذلك، فبالتالي هم عاجزون عن حماية الحسين، أو أن يذهب إلى اليمن، ويعمل بما أرشده إليه؛ فإن عوامل النجاح فيه أكثر، وعوامل الفشل فيه أقل من رحيله إلى العراق، ولعل ابن عباس قد لا يريد للحسين لا هذا ولا ذاك، ولكن أراد تأخير الحسين عن اتخاذ تلك الخطوة السريعة بخروجه إلى العراق، التي لا ينفع معها تدارك الأمر، أما لو اقتنع برأي ابن عباس من الانتظار حتى يتهيأ له الأمر في العراق، أو يعدل عنه إلى اليمن، وهذا سيأخذ وقتًا طويلاً لترتيب الأمور هناك، وبهذا أو ذاك فإنه يمكن أن يكون لعامل الوقت أثر في حل الوضع وإطفاء الفتنة.

    ويفهم من كلام ابن عباس بأنه لا يخالف الحسين في خروجه على يزيد من الناحية الشرعية، ولكن كان يخالفه من الناحية الاستراتيجية فكان يرى ألا يخرج الحسين للعراق حتى يتأكد من قوة شيعته وأنصاره هناك، وأن الأمويين لم يعد لهم نفوذ، وإلا فإن اليمن بعيدة عن النفوذ الأموي وله فيها أنصار، وبها أماكن كثيرة للتخفي، حتى يتمكن من جمع القوى الكافية لمقاومة الأمويين.

    ت - عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: فقد نصح الحسين - رضي الله عنه - في أكثر من موقف، فحين بلغه خروج ابن الزبير والحسين إلى مكة رافضين بيعة يزيد لقيهما، وقال: أذكركما الله إلا رجعتما فدخلتما في صالح ما يدخل فيه الناس وتنظران، فإن اجتمع عليه الناس لم تشذَّا، وإن افترق عليه كان الذي تريدان، ولما قدم المدينة وبلغه خروج الحسين لأهل الكوفة لحقه ابن عمر على مسيرة ليلتين فقال: أين تريد؟ قال: العراق، ومعه طوامير وكتب، فقال: لا تأتهم، قال: هذه كتبهم وبيعتهم. فقال: إن الله خيَّر نبيه بين الدنيا والآخرة، فاختار الآخرة، وإنكم بضعة منه، لا يليها أحد منكم أبداً، وما صرفها الله عنكم إلا للذي هو خير لكم، فارجعوا، فأبى، فاعتنقه ابن عمر، وقال: أستودعك الله من قتيل.

    وكان ابن عمر يقول بعد ذلك: غلبنا الحسين بن علي بالخروج، ولعمري لقد رأى في أبيه وأخيه عبرة، ورأى من الفتنة وخذلان الناس لهم ما كان ينبغي له ألا يتحرك ما عاش، وأن يدخل في صالح ما دخل فيه الناس؛ فإن الجماعة خير.

    ث - عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه -: اتهمته بعض الروايات الضعيفة أنه أحد المتسببين في إقناع الحسين بالخروج إلى الكوفة، هو نفسه ثبت عنه بأنه قد أسدى النصائح للحسين، وحذره من مغبة مغادرة مكة والذهاب إلى الكوفة، وقد نصح الحسين قائلاً: أين تذهب إلى قوم قتلوا أباك وطعنوا أخاك؟، فقال له الحسين: لأن أقتل بمكان كذا وكذا أحب إليَّ من أن تُستَحلَّ بي - يعني مكة-.
    وقد نظر بعض الصحابة إلى العمل الذي سيقدم عليه الحسين بأنه في حقيقته خروج على الإمام صاحب البيعة، كما نظروا إلى خروج الحسين وما يحمله خروجه على أنه نذر شر وبلاء على الأمة مهما كانت النتائج لأي من الطرفين منهم.

    ج - أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه -: حيث قال: غلبني الحسين على الخروج وقد قلت له: اتق الله في نفسك والزم بيتك، ولا تخرج على إمامك.

    خ - وقال جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -: كلمت حسيناً فقلت له: اتق الله، ولا تضرب الناس بعضهم ببعض، فوالله ما حمدتم ما صنعتم، فعصاني.

    ولم تتوقف المحاولات الهادفة بين الحسين وبين خروجه إلى الكوفة فكتب إليه ابن جعفر:

    د - عبد الله بن جعفر - رضي الله عنه -: كتب إلى الحسين وأرسل كتابه مع ابنيه محمد وعون: أما بعد، فإني أسألك بالله لما انصرفت حين تنظر في كتابي؛ فإني مشفق عليك من الوجه الذي توجهت له أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك.

    ولكن الحسين رفض الرجوع وهنا ظن عبد الله بن جعفر أن سبب خروج الحسين هو خوفه من الوالي عمرو بن سعيد بن العاص، فذهب إلى عمرو بن سعيد بن العاص، وطلب منه أن يكتب كتاباً إلى الحسين يؤمنه فيه ويعده بالخير، وكان رد عمرو بن سعيد أن قال لعبد الله بن جعفر: اكتب ما شئت وائت به أختمه.

    فكتب ابن جعفر: "بسم الله الرحمن الرحيم من عمرو بن سعيد إلى الحسين بن علي، أما بعد، فإني أسأل الله أن يصرفك عما يبوقك، وأن يهديك لما يرشدك، بلغني أنك قد توجهت إلى العراق، وإني أعيذك بالله من الشقاق، فإني أخاف عليك فيه الهلاك، وقد بعثت إليك عبد الله بن جعفر، ويحيى بن سعيد، فأقبل إليَّ معهما؛ فإن لك عندي الأمان والبر والصلة وحسن الجوار لك، والله بذلك شهيد وكفيل، ومراعٍ ووكيل، والسلام عليك.

    ولكن الحسين - رضي الله عنه - رفض هذا الرجاء أيضاً وواصل مسيره.

    ذ - أبو واقد الليثي - رضي الله عنه -: فقد روي عنه أنه قال: بلغني خروج الحسين، فأدركته بملل، فناشدته الله ألا يخرج، فإنه يخرج في غير وجه خروج، إنما يقتل نفسه، فقال: لا أرجع.

    ر - عمرة بنت عبد الرحمن: فقد كتبتْ إليه تعظّم عليه ما يريد أن يصنع، وتأمره بالطاعة ولزوم الجماعة، وتخبره أنه إنما يساق إلى مصرعه.

    ز- أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث: يا ابن عَمِّ إن الرحم تظأرُني عليك، وما أدري كيف أنا عندك في النصيحة لك؟ قال: يا أبا بكر ما أنت ممن يُستغشُّ ولا يُتَّهمُ، فقل. قال: قد رأيت ما صنع أهل العراق بأبيك وأخيك، وأنت تريد أن تسير إليهم وهم عبيد الدنيا، فيُقاتلك من قد وعدك أن ينصرك، ويخذلك من أنت أحب إليه ممن ينصره فأُذكِّرك الله في نفسك. فقال: جزاك الله يا ابن عمِّ خيراً، ومهما يقضي الله من أمر يكن. فقال أبو بكر: إنا لله، عند الله نحتسب أبا عبد الله.

    س - عبد الله بن مطيع فقد قال: إني فداك أبي وأمي، متعنا بنفسك، ولا تسر إلى العراق، فوالله لئن قتلك هؤلاء القوم ليتخذُنَّا خولا وعبيداً.

    ش - سعيد بن المسيب: فقد نقل عنه الذهبي أنه قال: لو أن الحسين لم يخرج لكان خيراً له.

    ك - عمرو بن سعيد بن العاص: فقد كتب إليه يقول: إني أسأل الله أن يلهمك رشدك وأن يصرفك عمَّا يرديك، بلغني أنك قد اعتزمت على الشخوص إلى العراق، فإني أعيذك بالله من الشِّقاق.

    و - الفرزدق: فقد لقيه بالصِّفاح، فسأله الحسين عمَّا وراءه، فقال: أنت أحب النَّاس إلى النَّاس، والقضاء في السماء، والسيوف مع بني أمية.
    وفي خبر آخر قال أنه قال: قلت له: يخذلونك، لا تذهب إليهم فلم يطعني.

    هذه أقوال الصحابة والتابعين في موقفهم من خروج الحسين، وهذه فلسفتهم في هذه القضية الهامَّة، فهم لم يبايعوا يزيد؛ لأنهم يرونه أفضل من غيره من الصحابة والتابعين، ولكنهم فعلوا ذلك؛ درءاً لمفسدة التفرق والاختلاف بين المسلمين، ودليل ذلك ما رواه خليفة بن خياط وابن سعد، عن داود بن عبد الله الأودي، عن حميد بن عبد الرحمن قال: دخلنا على رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حين استخلف يزيد بن معاوية، فقال: أتقولون إن يزيد ليس بخير أمة محمد، لا أفقه فيها فقهاً، ولا أعظمها فيها شرفاً؟ قلنا. نعم. قال: وأنا أقول ذلك، ولكن والله لأن تجتمع أمة محمد أحب إليَّ من أن تفترق، أرأيتم باباً لو دخل فيه أمة محمد وسعهم، أكان يعجز عن رجل واحد لو دخل فيه؟ قلنا: لا. قال: أرأيتم لو أن أمة محمد قال كل رجل منهم: لا أهريق دم أخي، ولا آخذ ماله، أكان هذا يسعهم؟ قلنا: نعم. قال: فذلك ما أقول لكم.

    ومن الملاحظ إجماع كل من نصح الحسين - حتى من لم ير بأساً برفضه البيعة - على أن لا يخرج للعراق ولا يثق في أهل الكوفة، فقد كتب إليه المسور بن مخرمة - رضي الله عنه - بأن لا يغتر بكتب أهل العراق، ونصحه بأن لا يبرح الحرم، فإن كانت لهم حاجة فسيضربون إليه آباط الإبل حتى يوافوه فيخرج في قوة وعدة.

    ومما يلفت الانتباه - زيادة على إجماع الناصحين للحسين على خيانة أهل الكوفة ووجوب عدم الثقة بوعودهم - كذلك يلفت الانتباه إجماعهم في توقعهم لمقتل الحسين كما يبدو ذلك من أسفهم عليه وكلمات التوديع له، وما ذلك إلا دليل على معرفة أولئك الناصحين من العلماء بالأوضاع، ووعيهم لما سبق من أحداث جرت إبان الفتنة بين علي ومعاوية، عرفوا من خلالها الدوافع والأهواء التي تدفع ببعض الأقوام للاستفادة من إثارة الإحن ودوام الفتن.

    يتبع
    SeIfElLaH
    SeIfElLaH
    مجلس المدراء
    مجلس المدراء


    الأوسمة : حقائق غائبة حول استشهاد الحسين - رضي الله عنه - وأحداث كربلاء 0ea39110
    عدد المساهمات : 4497
    نقاط : 6387
    تاريخ التسجيل : 22/03/2010
    العمر : 47

    حقائق غائبة حول استشهاد الحسين - رضي الله عنه - وأحداث كربلاء Empty رد: حقائق غائبة حول استشهاد الحسين - رضي الله عنه - وأحداث كربلاء

    مُساهمة من طرف SeIfElLaH السبت أكتوبر 15, 2016 4:38 pm

    حقائق غائبة حول استشهاد الحسين - رضي الله عنه - وأحداث كربلاء
    (الحلقة 2) خروج الحسين بن علي رضي الله عنهما
    الكاتب: الدكتور علي محمد الصلابي


    حقائق غائبة حول استشهاد الحسين - رضي الله عنه - وأحداث كربلاء Do





    رابعاً: موقف يزيد من أحداث الكوفة:

    لما تأكد ليزيد تصميم الحسين على الاستجابة لدعوة أهل الكوفة، كتب لابن عباس؛ لأنه شيخ بني هاشم في عصره وعالم المسلمين، قائلاً: ونحسب أن رجالاً أتوه من المشرق فمنَّوه الخلافة، فإنه عندك منهم خبرة وتجربة، فإن كان فعل فقد قطع وشائج القرابة، وأنت كبير أهل بيتك، والمنظور إليه، فاكففه عن السعي في الفرقة. ثم كتب بهذه الأبيات إليه وإلى مكة والمدينة من قريش:



    يا أيها الراكب الغادي لطيته *** على عُذَاقِرةٍ في سيرها قحم
    أبلغ قريشاً على نأي المزار بها *** بيني وبين حسين الله والرحم
    إلى أن قال:
    يا قومنا لا تشبوا الحرب إذ خمدت *** وأمسكوا بجبال السلم واعتصموا
    لا تركبوا البغي إن البغي مصرعه *** وإن شارب كأس البغي يتخم
    قد غرَّت الحرب من قد كان قبلكم *** من القرون وقد بادت بها الأمم
    فأنصفوا قومكم لا تهلكوا بذخاً *** فرب ذي بذخ زلت به القدم
    فكتب إليه ابن عباس: إني لأرجو أن لا يكون خروج الحسين لأمر تكرهه، ولست أدع النصيحة له في كل ما يجمع الله به الألفة وتطفي بها الثائرة.



    وفي تلك الأثناء كانت الأحداث تتسارع، وذلك بعدما أخذ الشيعة يختلفون على مسلم بن عقيل ويبايعونه، وعندما أحس النعمان بن بشير الأنصاري والي الكوفة بخطورة الوضع، قام، فخطب في الناس، وقال: اتقوا الله عباد الله ولا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة؛ فإن فيها يهلك الرجال، وتسفك الدماء وتغصب الأموال، وقال: إني لم أقتل من لم يقاتلني، ولا أثب على من لا يثب عليَّ، لا أشاتمكم ولا أتحرش بكم، ولا آخذ بالقرف ولا الظنة والتهمة، ولكن إن أبديتم صفحتكم لي، ونكثتم بيعتكم، وخالفتم إمامكم، فوالله الذي لا إله غيره لأضربنكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ولو لم يكن لي منكم ناصر، أما إني أرجو أن يكون من يعرف الحق منكم أكثر ممن يرديه الباطل.


    وأشارت سياسة النعمان بن بشير - رضي الله عنه - مع أنصار الحسين حفيظة الناصحين للأمويين، وأحد الموالين لهم في الكوفة وهو عبد الله بن مسلم بن سعيد الحضرمي، حليف بني أمية، فقام إلى النعمان بن بشير وبين له أن طريقته هذه إنما هي طريقة المستضعفين وأنه يجب عليه أن ينهج سياسة البطش والقوة حيال المتربصين بأمن الكوفة، ولكن رد النعمان بن بشير - رضي الله عنه - كان واضحاً بأنه يراقب الله في سياسته.


    ولم تعجب يزيد سياسة النعمان فعزله من ولاية الكوفة، وعيَّن بدله عبيد الله بن زياد وكتب إليه: إن شيعتي من أهل الكوفة كتبوا إليَّ يخبروني أن ابن عقيل بالكوفة يجمع الجموع؛ ليشق عصا المسلمين، فسر حين تقرأ كتابي هذا حتى تأتي أهل الكوفة، فتطلب ابن عقيل كطلب الخرزة، حتى تثقفه فتوثقه، أو تقتله أو تنفيه، والسلام.


    وغادر ابن زياد البصرة بعد أن اتخذ عدة احتياطات؛ خوفاً من حدوث اضطرابات، وأناب عنه أخاه عثمان بن زياد على البصرة، ثم خرج من البصرة ومعه وجوه أهل البصرة أمثال مسلم بن عمرو الباهلي، وشريك بن الأعور الحارثي وحشمه وأهل بيته.
    وأقبل ابن زياد إلى الكوفة ودخلها متلثماً والناس قد بلغهم إقبال الحسين إليهم، فهم ينظرون قدومه، فظنوا حين قدم عبيد الله أنه الحسين بن علي، فأخذ لا يمر على جماعة من الناس إلا سلموا عليه وقالوا: مرحباً بك يا ابن رسول الله، قدمت خير مقدم، فلما أكثروا عليه صاح فيهم مسلم بن عمرو وقال: تأخروا، هذا الأمير عبيد الله بن زياد فلما نزل في القصر نودي: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، فخرج إليهم، ثم خطبهم ووعد من أطاع منهم خيراً، وتوعد من خالف وحاول الفتنة منهم شراً.



    خامساً: عبيد الله بن زياد وخطواته للقضاء على مسلم بن عقيل وأنصاره:

    1 - اختراق تنظيم مسلم بن عقيل:


    حرص عبيد الله بن زياد على جمع المعلومات بواسطة جواسيسه على الفئات المعارضة، واستطاع أن يخترق أتباع مسلم بن عقيل، وقد كلَّف أحد رجاله بهذه المهمة، فأعطاه مبلغاً من المال، وكان الرجل من أهل الشام يقال له: معقلاً وكان مقدار المبلغ ثلاثة آلاف درهم، وقال: خذ هذا المال، وانطلق فالتمس مسلم بن عقيل، وتأتَّ له بغاية التأتي، فانطلق الرجل حتى دخل المسجد الأعظم، ثم نظر إلى رجل يكثر الصلاة إلى سارية من سواري المسجد، فجلس الرجل حتى إذا انفتل من صلاته، فدنا منه وجلس، فقال: جعلت فداك إني رجل من أهل الشام مولى لذي الكلاع، وقد أنعم الله عليَّ بحب أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحب من أحبَّهم، ومعي هذه الثلاثة الآلاف درهم، أحب إيصالها إلى رجل منهم، بلغني أنه قدم هذا المصر داعية للحسين بن علي، فهل تدلني عليه لأُوصل هذا المال إليه؟ ليستعين به على بعض أموره ويضعه حيث أحب من شيعته، قال له الرجل: وكيف قصدتني بالسؤال عن ذلك دون غيري ممن هو في المسجد؟ قال: لأني رأيت عليك سيما الخير، فرجوت أن تكون ممن يتولى أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.



    قال له الرجل: ويحك قد وقعت عليَّ بعينك، أنا رجل من إخوانك، واسمي مسلم بن عوسجة، وقد سُرِرت بك وساءني ما كان من حسي قبلك، فإني رجل من شيعة أهل هذا البيت، خوفاً من هذا الطاغية ابن زياد، فأعطني ذمة الله وعهده أن تكتم هذا عن جميع الناس، فأعطاه من ذلك ما أراد، واستطاع الشامي في نهاية المطاف الوصول إلى مسلم بن عقيل، فكان يغدو إلى مسلم بن عقيل فلا يحجب عنه، فيكون نهاره كله عنده فيتعرَّف جميع أخبارهم، فإذا أمسى وأظلم عليه الليل دخل على عبيد الله بن زياد، فأخبره بجميع قصصهم، وما قالوا، وما فعلوا في ذلك، وأعلمه نزول مسلم بن عقيل في دار هاني بن عروة. وهكذا استطاع ابن زياد أن يعرف أخبار مسلم بن عقيل وتحركاته.


    2 - سجن هانيء بن عروة:

    كان محمد بن الأشعث وأسماء بن خارجة يدخلون على ابن زياد مُسَلمين، فقال لهما: ما فعل هانيء بن عروة؟ فقالا: أيها الأمير، إنه عليل منذ أيام، فقال ابن زياد: وكيف؟. بلغني أنه يجلس على باب داره عامَّة نهاره، فما يمنعه من إتياننا وما يجب عليه في حق التسليم؟ قالا: سنعلمه ذلك، ونخبره باستبطائك إياه، فخرجا من عنده، وأقبلا حتى دخلا على هانيء بن عُروة، فأخبراه بما قال لهما ابن زياد، وما قالا له، ثم قالا له: أقسمنا عليك إلا قمت معنا إليه الساعة؛ لَتُسلُ سخيمة قلبه، فدعا ببغلته فركبها ومضى معهما، حتى إذا دنا من قصر الإمارة خبُثت نفسه، فقال لهما: إن قلبي قد أوجس من هذا الرجل خيفة.
    قالا: ولمَ تحدثُ نفسك بالخوف وأنت بريء الساحة؟
    فمضى معهما حتى دخلوا على ابن زياد، فأنشأ ابن زياد يقول متمثلاً:
    أريد حياته ويريد قتلي *** عَذِيرَك من خَلِيلِكَ من مراد
    قال: هانيء وما ذاك أيها الأمير؟
    قال ابن زياد: وما يكون أعظم من مجيئك بمسلم بن عقيل وإدخالك إياه منزلك، وجمعك له الرجال ليبايعوه؟ فقال هانيء: ما فعلت، وما أعرف من هذا شيئاً، فدعا ابن زياد بالشامي، وقال: يا غلام، ادع لي معقلاً، فدخل عليهم، فقال: ابن زياد لهانيء بن عروة: أتعرف هذا؟ فلما رآه علم أنه إنما كان عيناً عليهم، فقال هانيء: أصدُقُك والله أيها الأمير، وإني والله ما دعوت مسلم بن عقيل وما شعرت به، ثم قصَّ عليه قصَّته على وجهها.
    ثم قال: فأمّا الآن فأنا مخرجه من داري لينطلق حيث يشاء، وأعطيك عهداً وثيقاً أن أرجع إليك. قال ابن زياد" لا والله لا تفارقني حتى تأتيني به. فقال هانيء: أو يجملُ بي أن أسلم ضيفي وجاري للقتل؟ والله لا أفعل ذلك أبداً.
    فاعترضه ابن زياد بالخيزرانة، فضرب وجهه، وهشم أنفه، وكسر حاجبه، وأمر به فأُدخل بيتاً، فبلغ الخبر عمرو بن الحجاج الزبيدي أن هانئاً قد قتل، فأقبل في قبيلة مذجح، وأحاط بالقصر، ونادى بأنه لم يخلع الطاعة، وإنما أراد الاطمئنان إلى سلامة هانيء، فأمر ابن زياد القاضي شريح بأن يدخل على هانيء، وينظر إليه ويخبرهم أنه حي، ففعل، فقال لهم سيدهم عمر وبن الحجاج: أما إذا كان صاحبكم حياً فما يعجلكم الفتنة؟ انصرفوا فانصرف.



    3 - استخدام ابن زياد للأشراف للقضاء على تمرد الكوفة:

    لما بلغ مسلم بن عقيل خبر ضرب وجه هانيء بن عروة، أمر أن ينادي في أصحابه الذين بايعوه، واستخدم كلمة السر وهي: يا منصور أمت، فتنادى أهل الكوفة، فاجتمعوا إليه، وكان عدد الذين حصروا أربعة آلاف رجل، فعقد مسلم لعبيد الله بن عمرو بن عزيز الكندي على ربع كندة وربيعة، وأمره أن يسير أمامه بالخيل، ثم عقد لمسلم بن عوسجة الأسدي على ربع مذجح وأسد، وأمَّره على الرجَّالة، وعقد لأبي ثمامة الصائدي على ربع تميم وهمدان، وعقد لعباس بن جعدة الجدلي على ربع المدينة، ثم قدم نحو القصر، ولما بلغ ابن زياد إقباله تحرَّز وتمنَّع بالقصر، وكان ابن زياد يملك قدراً كبيراً من الدهاء والمكر والخداع، حيث إنه بمجرد دخوله القصر جمع وجوه الكوفة واحتفظ بهم عنده حتى يكونوا وسيلة ضغط مهمة عنده ستثمر عن نتائج إيجابية جداً لصالح ابن زياد.

    وتقدم مسلم بهذه الجموع، صوب قصر الإمارة التي يتحصن بها ابن زياد، وهنا طلب ابن زياد من أشراف الناس وزعماء الكوفة الذين معه أن يعظوا الناس ويُخَذِّلوهم ويخوفونهم بقرب أهل الشام، وصار هؤلاء الأمراء والزعماء يثبطون الناس، ويذكرونهم بالسلامة والأمن، وأنهم إن لم ينصرفوا، سيحرمون من العطاء، وسيساقون إلى الثغور وسينالهم العقاب الشديد، ولم يكن التثبيط مقصوراً على الأمراء فقط، بل إن النساء كان لهن دورٌ كبير في إضعاف عزيمة المناصرين لمسلم، إضافة إلى الآباء وكبار السن فقد كان لهم نفس الدور.
    وكانت المرأة تأتي ابنها وأخاها وتقول: انصرف، الناس يكفونك، ويجيء الرجل إلى ابنه وأخيه ويقول غداً يأتيك أهل الشام فما تصنع بالحرب والشر انصرف.

    وأخذت هذه الحرب النفسية التي جُوبِه بها المؤيدون لمسلم بن عقيل من التهويل والتخويف تعمل عملها بين صفوف الناس، فبدؤوا ينصرفون عن مسلم بن عقيل وأخذ العدد يتضاءل سريعاً حتى إنه لما قرب المساء لم يبقَ مع مسلم بن عقيل إلا عددٌ بسيطٌ يتراوح بين الثلاثمائة والخمسمائة رجل، وكان غالبية الذين بقوا مع مسلم بن عقيل من مذجح، فأمر ابن زياد، عبيد الله بن كثير بن شهاب الحارثي أن يخرج فيمن أطاعه من مذجح ويسير بالكوفة ويُخَذِّل الناس عن ابن عقيل، ويخوفهم بالحرب وعقوبة السلطان، ثم أمر ابن زياد محمد بن الأشعث أن يخرج فيمن أطاعه من كندة وحضرموت، ويرفع راية الأمان لمن يأتيه من الناس، وقال مثل ذلك للقعقاع بن شور الذهلي، وشبث بن ربعي التميمي وحجار بن أبجر العجلي، وشمر بن ذي الجوشن العامري، وأبقى سائر وجوه الناس معه، وأمام هذه الإجراءات السريعة من ابن زياد، وأمام الشد النفسي الذي نازع غالبية من انضموا إلى مسلم بن عقيل أخذ هذا العدد يتضاءل حتى وصل إلى ستين رجلاً، ثم حدثت معركة بين مسلم وأتباعه وبين ابن الأشعث، والقعقاع بن شور، وشبث بن ربعي عند الرحبة، ويبدو أن هذه المعركة لم تدم طويلاً عندما تنبه القعقاع بن شور إلى أن المقاتلين إنما يقاتلون لأجل النجاة، عند ذلك أمر بإفساح الطريق لهم، فهربوا نحو المسجد، ولما أمسى المساء تفرق الناس، وبقي مسلم بن عقيل وحيداً في طرقات الكوفة.


    4 - القبض على مسلم بن عقيل وقتله:

    أصبح مسلم بن عقيل وحيداً يتردد في طرق الكوفة، فأتى بيتاً فخرجت إليه امرأة، فقال: اسقيني، فسقته، ثم دخلت، ومكثت ما شاء الله، ثم خرجت، فإذا به على الباب، فقالت: يا هذا، إن مجلسك مجلس ريبة، فقم، فقال: أنا مسلم بن عقيل، فهل عندك مأوىً؟ قالت: نعم فأدخلته، وكان ابنها مولى لمحمد بن الأشعث، فانطلق إلى مولاه فأعلمه، فبعث عبيد الله الشُّرَط إلى مسلم، فخرج وسلَّ سيفه، وقاتل فأعطاه ابن الأشعث أمانًا فسلَّم نفسه، وفي الطريق نحو ابن زياد بكى مسلم، فقيل له: إن من يطلب مثل ما تطلب لا يبكي إذا نزل به مثل الذي نزل بك. قال: إني والله ما لنفسي أبكي، وما لها من القتل أرثي، وإن كنت لم أحب لها طرفة عين تلفاً، ولكني أبكي لأهلي المقبلين إلى الكوفة، أبكي حسيناً وآل الحسين.



    وأقبل مسلم على محمد بن الأشعث فقال: يا عبد الله، إني والله أراك ستعجز عن أماني، فهل عندك خير تستطيع أن تبعث رجلاً على لساني يبلغ حسيناً عني رسالة؟ فإني لا أراه إلا قد خرج إليكم اليوم أو غداً هو وأهل بيته، وإن ما تراه من جزعي لذلك، فتقول: إن ابن عقيل بعثني إليك، وهو في أيدي القوم أسير لا يدري أيصبح أم يمسي حتى يقتل، وهو يقول لك: ارجع بأهلك ولا يغرنك أهل الكوفة، فإنهم أصحاب أبيك الذي كان يتمنى فراقهم بالموت أو القتل، إن أهل الكوفة قد كذبوك وكذبوني، وليس لكاذب رأي.


    فقال محمد بن الأشعث: والله لأفعلن ولأعلمن ابن زياد أني قد أمنتك، ودعا ابن الأشعث إياس بن العباس الطائي، وقال له: اذهب فالقَ حسيناً فأبلغه هذا الكتاب، ثم أعطاه راحلة وتكفل له بالقيام بأهله وداره، وأدخل محمد بن الأشعث مسلم بن عقيل على ابن زياد، وأخبره بما أعطاه من الأمان، فقال ابن زياد: ما بعثناك لتؤمنه، ولم يقبل أمانه، واستسقى مسلم وهو بباب القصر، فجاءه عمار بن عقبة بماء بارد، ولكنه لم يستطع أن يشرب؛ لما كان يختلط به من دمه، فتركه ودخل على ابن زياد، فقال له: إني قاتلك. قال: كذلك؟ قال: نعم. قال: فدعني أوصي إلى بعض قومي، قال: أوصِ، فنظر مسلم في جلسائه وفيهم عمر بن سعد بن أبي وقاص، فقال: عمر، إن بيني وبينك قرابة، ولي إليك حاجة، وهي سر، فقم معي إلى ناحية القصر حتى أقولها لك، فأبى أن يقوم معه حتى أذن له ابن زياد، فقام فتنحى قريباً من ابن زياد، فقال له مسلم: إن علي ديناً في الكوفة سبعمائة درهم، فاقضها عني، واستوهب جثتي من ابن زياد فوارِها، وابعث إلى الحسين، فإني كنت قد كتبت إليه أن الناس معه، ولا أراه إلا مقبلاً، فقام عمر، فعرض على ابن زياد ما قال له: فأجاز ذلك كله، وقال: أما حسين فإنه لم يُردْنا ولا نردُّه، وإن أرادنا لم نكفَّ عنه، ثم أمر ابن زياد بمسلم بن عقيل، فأصعد إلى أعلى القصر، وهو يكبر ويهلل ويسبح ويستغفر ويصلي على ملائكة الله، ويقول: اللهم، احكم بيننا وبين قوم غرونا وخذلونا، ثم ضرب عنقه رجل يقال له: بكير بن حمران ثم ألقى رأسه إلى أسفل القصر، وأتبع رأسه بجسده.


    5 - قتل هانيء بن عروة:

    واتخذ ابن زياد إجراءً يدل على قسوته وجبروته وظلمه، فقد أمر بهانيء فأخرج إلى السوق، وقتل، وظل هانيء يصيح لقبيلته مذحج، ولكن لم ينصره أحد، ثم صلب هانيء ومسلم في سوق أمام الناس، ثم أمر بضرب أعناق اثنين من الذين كانوا يخططون لنصر مسلم بن عقيل وصلبهما في السوق أيضاً.



    وكان في وسع ابن زياد أن يرسل مسلم بن عقيل وهانيء بن عروة إلى الخليفة بدمشق، وربما يسجنان أو يعفى عنهما فيما بعد بدلاً من إراقة الدماء وإيجاد الإحن والعداوات بين المسلمين.


    وقد برهن ابن زياد على بطش الدولة وعسفها، وأنها لا تبالي إلا بالحفاظ على سلطانها مهما كلفها ذلك من سفك الدماء ويبدو أن مسلماً - رحمه الله - لم يكن بالسياسي المحنك الذي ينظر للمستقبل بحذر، ويزن الأمور بميزان الوقائع السابقة ويقيس الأحداث القائمة على نظيراتها الماضية لهذا غرَّه تكاثر المبايعين، وبكاؤهم بين يديه ووعودهم الموثقة بنصرة الحسين، فأسرع وكتب إلى الحسين يستقدمه، ويحثه على سرعة الحضور فقد تمهدت له البيعة والحضور، فالعواطف وحدها لا تكفي في قلب الأنظمة وإزالة الدول، فلا بد من القيادة الراشدة، والتنظيم المحكم، والتخطيط البعيد، وتوثيق الأفراد، والإعداد المعنوي والمادي معاً جنباً إلى جنب، ونستطيع أن نقول بأن ما اعتمد عليه مسلم بن عقيل وهانيء بن عروة من حسابات كانت خاطئة وغير صحيحة، فقد ظن مسلم بن عقيل أن العاطفة المحركة لكثير من العامة هي السبيل الوحيد للنصر، ولم يأخذ في الاعتبار تأييد زعماء الكوفة أو الاتصال بهم، ولم يحاول مسلم بن عقيل أن ينظم تلك الجموع، وفق اختصاصات معينة تسيطر عليها منظمة سرية تستطيع أن تتحرك في الخفاء وبدون قيود، كما أنه أخفق في توظيف الإمكانات التي توفرت له، حيث إن العاطفة المسيطرة على المجتمع الكوفي كفيلة بأن تقلب الأمور لصالحه، وذلك بعد إرادة الله، فيما لو استخدمت وأرشدت تلك العاطفة إرشاداً صحيحاً مميزاً، ونجد الطرف الآخر النصير وهو هانيء بن عروة والذي يعتبر من أبرز الناس الذين أيدوا مسلماً وناصروه اعتمد على قوة وكثرة قبيلته، وظن أنه بمنأى عن العقاب وذلك باعتباره زعيماً لمراد التي ذكر المؤرخون أنه كان يركب في أربعة آلاف دارع وثمانية آلاف راجل، وإذا انضاف لهذه القبيلة أحلافها من كندة بلغ العدد ثلاثين ألف دارع، سوى الرجالة، ولكن حسابات هانيء بن عروة كانت خاسرة، فالناس قد ضعفت بينهم الروابط القديمة التي تعتبر فيها القبيلة محور الارتكاز، وزعيم القبيلة هو القائد المهيمن الذي ينصاع لأوامره الجميع بدون تردد، وكان لتقسيمات الأرباع في ولاية زياد بن أبيه أثر في هذا الضعف، كما أن نظام العطاء ربط مصالح القبائل بالسلطة الأموية، لقد كانت الحسابات التي ارتكز عليها هانيء والتي اعتمد فيها على القبيلة قد أثبتت خسارتها، ومما قيل من الشعر في مقتل مسلم بن عقيل وهانيء بن عروة:
    فإن كنتِ لا تدرين ما الموت فانظري *** إلى هانيء في السُّوقِ وابن عقيل
    أصابهما أمر الإمام فأصبحا *** أحاديث من يسعى بكل سبيل
    إلى بطل قد هَشَّم السيف وجهه *** وآخر يَهوِي من طمار قتيل
    ترى جسداً قد غيَّر الموت لونه *** ونضح دمٍ قد سال كلَّ مَسيلٍ
    فإن أنتم لم تثأَروا بأخيكم *** فكونوا بغيا أُرضيت بقليل

    .......يتبع......
    SeIfElLaH
    SeIfElLaH
    مجلس المدراء
    مجلس المدراء


    الأوسمة : حقائق غائبة حول استشهاد الحسين - رضي الله عنه - وأحداث كربلاء 0ea39110
    عدد المساهمات : 4497
    نقاط : 6387
    تاريخ التسجيل : 22/03/2010
    العمر : 47

    حقائق غائبة حول استشهاد الحسين - رضي الله عنه - وأحداث كربلاء Empty رد: حقائق غائبة حول استشهاد الحسين - رضي الله عنه - وأحداث كربلاء

    مُساهمة من طرف SeIfElLaH الثلاثاء أكتوبر 18, 2016 3:17 pm

    حقائق غائبة حول استشهاد الحسين - رضي الله عنه - وأحداث كربلاء
    (الحلقة 3) خروج الحسين بن علي رضي الله عنهما
    الكاتب: الدكتور علي محمد الصلابي


    حقائق غائبة حول استشهاد الحسين - رضي الله عنه - وأحداث كربلاء Do



    سادساً: وصول خبر مقتل مسلم بن عقيل للحسين، وملاقاته طلائع جيش ابن زياد:

    خرج الحسين - رضي الله عنه - من مكة يوم التروية الموافق لثمان من ذي الحجة سنة ستين، أدرك والي مكة عمرو بن سعيد بن العاص خطورة الموقف فأرسل وفداً إلى الحسين وعلى رأسهم أخوه يحيى بن سعيد بن العاص فحاولوا أن يثنوه عن عزمه ولكنه رفض فنادوه: يا حسين، ألا تتقي الله؟ تخرج عن جماعة المسلمين وتفرق بين هذه الأمة، فردَّ الحسين قول الله - تعالى -: (لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) (يونس: 41). فخرج الحسين متوجهاً إلى العراق في أهل بيته، وستين شيخاً من أهل الكوفة.



    وكتب مروان بن الحكم إلى ابن زياد: أما بعد، فإن الحسين بن علي قد توجه إليك، وهو الحسين بن فاطمة، وفاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتالله ما أحد يسلمه الله أحب إلينا من الحسين، وإياك أن تهيج على نفسك ما لا يسده شيء ولا ينساه العامة، ولا يدع ذكره، والسلام عليك.


    وكتب إليه عمرو بن سعيد بن العاص ينهاه عن التعرض للحسين ويأمره بأن يكون حذراً في تعامله مع الحسين: قائلاً له: أما بعد، فقد توجه إليك الحسين وفي مثلها تعتق، أو تعود عبداً تسترق كما يسترق العبيد.


    وفي الطريق إلى الكوفة قابل الحسين الفرزدق الشاعر المشهور بذات عرق. فسأله الحسين بن علي عن تصوره لما يقوم به أهل الكوفة حياله، ثم أراد أن يعطي الفرزدق إيضاحاً أكثر وقال: هذه كتبهم معي، فرد عليه الفرزدق: يخذلونك فلا تذهب، فإنك تأتي قوماً قلوبهم معك وأيديهم عليك.


    وعندما علم يزيد بن معاوية بخروج الحسين من مكة واتجاهه للكوفة، كتب إلى ابن زياد يحذره ويقول: بلغني أن حسيناً قد سار إلى الكوفة وقد ابتلي به زمانك من بين الأزمان، وبلدك من بين البلاد، وابتليت به من بين العمال، وعندها تعتق أو تعود عبداً كما تتعبد العبيد.


    1 - ابن زياد يتخذ التدابير الأمنية:

    اتخذ ابن زياد بعض التدابير لكي يحول بين أهل الكوفة وبين الحسين، ويحكم سيطرته على الكوفة، فقام بجمع المقاتلة، وفرق عليهم العطاء؛ حتى يضمن ولاءهم.



    ثم بعث الحصين بن تميم الطهوي صاحب شرطته حتى نزل بالقادسية، وقام بتنظيم الخيل ما بين القادسية إلى خفان، وما بين القادسية إلى القطقطانة، وإلى لعلع، ثم أصدر أوامره إلى الحصين بن تيم بأن يقبض على كل من ينكره، ثم أمر ابن زياد بأخذ كل من يجتاز بين واقصة إلى طريق الشام، إلى طريق البصرة فلا يترك أحداً يلج ولا يخرج، وأراد ابن زياد من الإجراء الأخير قطع الاتصال بين أهل الكوفة وبين الحسين بن علي، ومضى الحسين بن علي في طريقه إلى الكوفة ولم يكن يعلم بتلك التغيرات التي حدثت في الكوفة بعد خروجه من مكة، ولما بلغ الحاجز من بطن الرمة بعث قيس بن مسهر الصيداوي إلى الكوفة وكتب معه إليهم برسالة يخبرهم فيها بقدومه، ولكن الحصين بن تميم قبض على قيس بن مسهر مبعوث الحسين حين وصوله إلى القادسية، ثم بعث به إلى ابن زياد فقتله مباشرة، ثم بعث الحسين مبعوثاً إلى مسلم فوقع في يد الحصين بن تميم، وبعث به إلى ابن زياد فقتله، وكانت لتلك الإجراءات الصارمة التي اتخذها ابن زياد أثر كبير على نفوس أتباع الحسين، فهم يرون أن من كان له علاقة بالحسين فإن مصيره القتل، وعلى أبشع صورة، فأصبح من يفكر في نصرة الحسين فإن عليه أن يتصور نهايته على ذلك النحو المؤلم، وكان الحسين - رضي الله عنه - يحس أن الأمور تسير سيراً غير طبيعي في الكوفة وخاصة عندما أخبره الأعراب أن أحداً لا يلج ولا يخرج من الكوفة مطلقاً.


    واستمر التحذير من بعض رجال القبائل العربية الذين مرَّ بهم، وبينوا له ذلك الخطر الذي يقدم عليه، ولكن الحسين كان يدلل على نجاح مهمته بالإشارة إلى ذلك العدد الهائل من أسماء المبايعين التي كانت بحوزته، ولما بلغ الحسين زبالة، وقيل شراف جاءه خبر مقتل مسلم بن عقيل وهانيء بن عروة وعبد الله بن بقطر، إضافة إلى تخاذل أهل الكوفة عن نصرته، وكان لهذا الخبر المفجع المؤلم وقعه الشديد على الحسين - رضي الله عنه -، فهؤلاء أقرب الناس إليه قد قتلوا، والشيعة في الكوفة تخاذلوا في نصرته.


    2 - الحسين يعطي الأذن لأصحابه بالانصراف:

    لما بلغ الحسين مقتل ابن عمه مسلم بن عقيل وتخاذل الناس عنه أعلم الحسين من معه بذلك، وقال من أحب أن ينصرف فلينصرف، فتفرق الناس عنه يميناً وشمالاً، وقال له بعض من ثبتوا معه: ننشدك الله إلا ما رجعت من مكانك؛ فإنه ليس لك بالكوفة ناصر ولا شيعة، بل نتخوف أن يكونوا عليك، فوثب بنو عقيل -إخوة مسلم- وقالوا: والله لا نبرح حتى ندرك ثأرنا أو نذوق كما ذاق مسلم.



    3 - ملاقاة الحر بن يزيد التميمي ومعه طلائع جيش الكوفة:

    انصرف الناس عن الحسين - رضي الله عنه - فلم يبق معه إلا الذين خرجوا معه من مكة، واستمر في سيره حتى بلغ شراف، وهناك أمر فتيانه أن يستقوا ويكثروا، ثم سار حتى إذا كان منتصف النهار كبَّر رجل من أصحابه، فقال الحسين: الله أكبر ما كبَّرت؟ قال الرجل: رأيت النخل، فقال رجلان، إن هذا المكان ما رأينا به نخلة قط، فقال الحسين: فما تريانه رأى؟ قالا: نراه رأى هوادي الخيل، فقال الرجل: وأنا والله أرى ذلك...

    وبالفعل كانت طلائع خيل ابن زياد عليها الحر بن يزيد وكان عددها ألف فارس وقد أدرك الحر بن يزيد الحسين ومن معه قريباً من شراف، ولما طلب منه الحسين الرجوع منعه، وذكر له أنه مأمور بملازمته حتى الكوفة، وقام الحسين وأخرج خرجين مملوءة بالكتب التي تطلب منه القدوم إلى الكوفة، فأنكر الحر والذين معه أي علاقة لهم بهذه الكتب، وهنا رفض الحسين الذهاب مع الحر إلى الكوفة وأصر على ذلك، فاقترح عليه الحر أن يسلك طريقاً يجنبه الكوفة ولا يرجعه إلى المدينة، وذلك من أجل أن يكتب الحر إلى ابن زياد بأمره، وأن يكتب الحسين إلى يزيد بأمره، وبالفعل تياسر الحسين عن طريق العذيب والقادسية واتجه شمالاً على طريق الشام، وأخذ الحر يساير الحسين وينصحه بعدم المقاتلة ويذكِّره بالله، وبيَّن له أنه إذا قاتل فسوف يقتل، وكان الحسين يصلي بالفريقين إذا حضرت الصلاة.


    4 - ملاقاة عمر بن سعد بن أبي وقاص والمفاوضات:

    ولما وصل الحسين إلى كربلاء أدركته خيل عمر بن سعد ومعه شمر بن ذي الجوشن، والحصين بن تميم، وكان هذا الجيش الذي يقوده عمر بن سعد مكوناً من أربعة آلاف مقاتل، وكان وجهة هذا الجيش في الأصل إلى الري لجهاد الديلم، فلما طلب منه ابن زياد أن يذهب لمقاتلة الحسين رفض عمر بن سعد في البداية هذا الطلب، ولكن ابن زياد هدده إن لم ينفذ أمره بالعزل وهدم داره وقتله، وأمام هذا الخيار رضي بالموافقة.



    ولما وصل الحسين كربلاء أحاطت به الخيل، -ويطلق على المنطقة كلها اسم الطف- وبدأ الحسين بن علي بالتفاوض مع عمر بن سعد، وبيَّن الحسين أنه لم يأت إلى الكوفة إلا بطلب من أهلها، وأبرز لعمر بن سعد الدليل على ذلك، وأشار إلى حقيبتين كبيرتين تضمن أسماء المبايعين والداعين للحسين، وكتب عمر بن سعد لابن زياد بما سمعه من الحسين وقال: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فإني حيث نزلت بالحسين بعثت إليه رسولي، فسألته عما أقدمه وماذا يطلب، فقال: كتب إلي أهل هذه البلاد وأتتني رسلهم، فسألوني القدوم ففعلت، فأما إذا كرهوني فبدا لهم غير ما أتتني به رسلهم فأنا منصرف عنهم. فلما قريء على ابن زياد تمثل قول الشاعر:
    الآن إذا علقت مخالبنا به *** يرجو النجاة ولاة حين مناص؟
    ثم كتب ابن زياد لعمر بن سعد: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فقد بلغني كتابك، وفهمت ما ذكرت، فاعرض على الحسين أن يبايع ليزيد بن معاوية وجميع أصحابه، فإذا فعل ذلك رأينا رأينا والسلام.
    ولما اطلع عمر بن سعد على جواب بن زياد ساءه ما يحمله الجواب من تعنت وصلف، وعرف أن ابن زياد لا يريد السلامة.
    رفض الحسين هذا العرض، ثم لما رأى جهامة الموقف وخطورته طلب من عمر بن سعد مقابلته، وعرض على عمر بن سعد عرضاً آخر يتمثل في إجابته واحدة من ثلاث نقاط.



    أ - أن يتركوه فيرجع من حيث أتى.
    ب - وإما أن يتركوه ليذهب إلى الشام فيضع يده في يد يزيد بن معاوية.
    ج - وإما أن يسيِّروه إلى أي ثغر من ثغور المسلمين فيكون واحداً منهم، له ما لهم وعليه ما عليهم.



    وقد أكد الحسين - رضي الله عنه - موافقته للذهاب إلى يزيد.
    وكتب عمر بن سعد إلى ابن زياد بكتاب أظهر فيه أن هذا الموقف المتأزم قد حُلَّ، وأن السلام قد أوشك، وما على ابن زياد إلا الموافقة، وبالفعل فقد أوشك ابن زياد أن يوافق ويرسله إلى يزيد، لولا تدخل شمر بن ذي الجوشن الذي كان جالساً في المجلس حين وصول الرسالة فقد اعترض على رأي ابن زياد في أن يرسله إلى يزيد، وبيَّن لابن زياد أن الأمر الصائب هو أن يطلب من الحسين أن ينزل على حكمه - أي ابن زياد - حتى يكون هو صاحب الأمر المتحكم فيه، فلما وصل الخبر إلى الحسين - رضي الله عنه - رفض الطلب وقال: لا والله لا أنزل على حكم عبيد الله بن زياد أبداً، وقال لأصحابه الذين معه: أنتم في حل من طاعتي، ولكنهم أصرُّوا على مصاحبته والمقاتلة معه حتى الشهادة، واتخذ ابن زياد إجراءً احترازياً حين خرج إلى النخيلة، واستعمل على الكوفة عمرو بن حريث، وضبط الجسر، ولم يترك أحداً يجوزه، وخاصة أنه علم أن بعض الأشخاص من الكوفة بدؤوا يتسللون من الكوفة إلى الحسين.



    سابعاً: المعركة الفاصلة استشهاد الحسين - رضي الله عنه - ومن معه:

    في صباح يوم الجمعة عام 61هـ نظم الحسين - رضي الله عنه - أصحابه وعزم على القتال وكان معه اثنان وثلاثون فارساً، وأربعون راجلاً، فجعل زهير بن القين في ميمنته، وحبيب بن مظاهر في الميسرة، وأعطى رايته العباس بن علي، وجعل البيوت وراء ظهورهم، وأمر الحسين بحطب وقصب فجعله من وراء البيوت، وأشعل فيه النار مخافة أن يأتوهم من خلفهم، وأما عمر بن سعد فقد نظم جيشه، وجعل على الميمنة عمرو بن الحجاج الزبيدي - بدلاً من الحر بن يزيد الذي انضم إلى الحسين-، وجعل على الميسرة شمر بن ذي الجوشن، وعلى الخيل عزرة بن قيس الأحمسي، وعلى الرجال شبث بن ربعي الرياحي، وأعطى الراية ذويداً مولاه.



    وبدأت المعركة سريعة وكانت مبارزة في بداية الأمر، وجُوبهَ جيش عمر بن سعد بمقاومة شديدة من قبل أصحاب الحسين، حيث إن مقاتلتهم اتسمت بالفدائية فلم يعد لهم أمل في الحياة، وكان الحسين - رضي الله عنه - في البداية لم يشترك في القتال، وكان أصحابه يدافعون عنه ولما قتل أصحابه لم يجرؤ أحد على قتله، وكان جيش عمر بن سعد يتدافعون ويخشى كل فرد أن يبوء بقتله وتمنوا أن يستسلم، ولكن الحسين - رضي الله عنه - لم يبدِ شيئاً من الليونة، بل كان - رضي الله عنه - يقاتلهم بشجاعة نادرة، عندئذ خشي شمر بن ذي الجوشن من انفلات زمام الأمور، فصاح بالجند وأمرهم بقتله، فحملوا عليه، وضربه زرعة بن شريك التميمي، ثم طعنه سنان بن أنس النخعي واحتز رأسه، ويقال أن الذي قتله عمرو بن بطار التغلبي، وزيد بن رقادة الحيني، ويقال أن المتولي للإجهاز عليه شمر بن ذي الجوشن الضبي، وحمل رأسه إلى ابن زياد خولي بن يزيد الأصبحي، وكان قتله - رضي الله عنه - في محرم في العاشر منه سنة إحدى وستين.


    وقتل مع الحسين - رضي الله عنه - اثنان وسبعون رجلاً، وقتل من أصحاب عمر ثمانية وثمانون رجلاً، وبعد انتهاء المعركة أمر عمر بن سعد بأن لا يدخل أحد على نساء الحسين وصبيانه، وأن لا يتعرض لهم أحد بسوء، وأرسل عمر بن سعد برأس الحسين ونسائه ومن كان معه الصبيان إلى ابن زياد.


    وكان الذين قتلوا مع الحسين - رضي الله عنه - من آل أبي طالب، فمن أولاد علي بن أبي طالب الحسين نفسه، وجعفر والعباس وأبو بكر ومحمد وعثمان، ومن أولاد الحسين: علي الأكبر غير علي زين العابدين؛ لأنه كان عنده علي الأصغر، وعلي الأكبر، وعبد الله، ومن أبناء الحسن قتل عبد الله والقاسم وأبو بكر، ومن أولاد عقيل قتل جعفر وعبد الله وعبد الرحمن، ومسلم بن عقيل قتل بالكوفة وعبد الله بن مسلم، ومن أولاد عبد الله بن جعفر: قتل عون ومحمد، ثمانية عشر رجلاً كلهم من بيت رسول الله قد قتلوا في هذه المعركة غير المتكافئة، والعجيب في هذه أن ممن قتل بين يدي الحسين بن علي - رضي الله عنهما - أبو بكر بن علي وعثمان بن علي وأبو بكر بن الحسن ولا تجد لهم ذكراً عندما تسمع أشرطة الشيعة، وتقرأ كتبهم التي أُلفت في مقتل الحسين، حتى لا يقال إن علي بن أبي طالب سمى أولاده بأسماء أبي بكر وعمر وعثمان، أو أن الحسن سمى على اسم أبي بكر، وهذا أمر عجيب جداً منهم.


    وعن أنس قال: ولما أُتي عبيد الله بن زياد برأس الحسين جعل ينكت بالقضيب ثناياه يقول: لقد كان – أحسبه – جميلاً، فقلت: والله لأَسوءنَّك، إني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلثم حيث يقع قضيبك. قال: فانقبض.


    وفي رواية البخاري عن أنس قال: أتي عبيد الله بن زياد برأس الحسين فجعله في طست، فجعل ينكت عليه، وقال في حسنه شيئاً، فقال أنس: إنه كان أشبههم برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان مخضوباً بالوسمة.


    ولما وصل نساء الحسين وصبيانه صنع بهما ابن زياد أن أمر لهم بمنزل في مكان معتزل فأجرى عليهم الرزق، وأمر لهن بالكسوة والنفقة.


    وتذكر بعض الروايات التي لها ميول شيعية أن ابن زياد أمر بقتل كل من أنبت، ولعل مما يظهر كذب هذه الروايات حينما تذكر أن علي بن الحسين كشفوا عنه فوجدوه قد أنبت، فأمر ابن زياد بقتله ولكن شفاعة أخته زينب وتعلقها به حالت دون قتله، وليس صحيحاً كذلك أن ابن زياد قد أساء معاملة نساء الحسين بعد قتله، أو في ترحيله لهن إلى الشام، فالروايات التاريخية تخبرنا أن أحسن شيء صنعه ابن زياد أنه أمر لهن بمنزل في مكان معتزل، وأجرى عليهن رزقاً، وأمر لهن بنفقة وكسوة.


    ويقول ابن تيمية في رده على بعض كذابي الشيعة: وأما ما ذكره من سبي نسائه والدوران بهن على البلدان وحملهن على الجمال بغير أقتاب، فهذا كذب، وباطل وما سبى المسلمون - ولله الحمد - هاشمية قط، ولا استحلت أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - هاشمية قط، ولكن أهل الهوى والجهل يكذبون كثيراً، بل المرجح أن ابن زياد بعد أن ذهبت عنه نشوة النصر، أحس فداحة خطئه، وكان ذلك الشعور هو المسيطر على بعض أفراد أسرته القريبين منه، فقد كانت أمه تقول له: ويلك ماذا صنعت؟، أو ماذا ركبت؟. وكان أخوه عثمان بن زياد يقول: لوددت والله أنه ليس من بني زياد رجل إلا وفي أنفه خزامة إلى يوم القيامة، وأن حسيناً لم يقتل: فلا ينكر عليه عبيد الله قوله.


    ثامناً: مواقف رائعة بجانب الحسين - رضي الله عنه -:

    كانت هناك مواقف رائعة هزت مشاعرنا، وقد سطر التاريخ هذه المواقف لأصحابها لكي يتبين للناس أن في كل زمان شخصيات تقف إلى جوار الرجال؛ تقديراً لمقامهم، ورعاية لحرمتهم، وإظهاراً للحق في مقارنة الرجال إذا واجه بعضهم بعضاً، فهم يقدرون الرجال لمكانتهم الاجتماعية ويفضلونهم على غيرهم، لما يتصفون به من العلم والشجاعة والتقوى ولو كان غيرهم هم الحكام والأمراء، فلا الخوف من الحاكم ينسيهم قدر الرجال، ولا ظلم الحكام ينحرف بهم إلى النفاق والمجاملة، ولا المناصب التي يشغلونها تلهيهم عما يجب أن يكونوا عليه من الصراحة والشجاعة الأدبية ومن هذه المواقف:



    1 - موقف الوليد بن عتبة بن أبي سفيان - رحمه الله -:
    فقد امتنع عن استخدام الشدة والقسوة مع الحسين وإلزامه بالقوة أو قتله وقال:... والله ما أحب أن لي ما طلعت عليه الشمس وغربت عنه من مال الدنيا وملكها وأني قتلت حسيناً، سبحان الله!، أقتل حسيناً أن قال: لا أبايع!، والله إني لا أظن امرءاً يحاسب بدم حسين لخفيف الميزان عند الله يوم القيامة.



    وهكذا يقف الوليد هذا الموقف الرائع، وهو أمير المدينة يومئذ، وهو يعلم تماماً أن ذلك الموقف سيؤدي لا محالة إلى عزله عن إمارة المدينة، بل قد يزيد على ذلك، فيؤدي إلى قتله وهلاكه، وهو مع هذا يفضل هلاك الدنيا وزوال الملك والسلطان، على أن يلقى الله بدم الحسين - رضي الله عنه -.


    2 - موقف النعمان بن بشير - رضي الله عنه:
    وكان أمير الكوفة، فإنه لما بلغه خروج الحسين بن علي - رضي الله عنهما - ووصول مسلم بن عقيل إلى الكوفة يأخذ البيعة للحسين، قام فخطب في الناس وحذرهم الخروج على الإمام، وأرهبهم من السعي في الفتنة، وذكرهم بما يجره على العامة والخاصة من الخراب والدمار، ومع ذلك كان ليناً مع الناس، وأخبرهم أنه لن يأخذ أحداً بظنه، ولن يقاتل أحداً لم يقاتله، ولكن شدد في نهاية الخطبة، وقال للناس: ولكنكم إن أبديتم صفحتكم لي، ونكثتم بيعتكم، وخالفتم إمامكم، فوالله الذي لا إله غيره، لأضربنكم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي، ولو لم يكن لي منكم ناصر. ومع هذا فقد عاب عليه محبو الأمويين هذا الموقف ووسموه بالضعف، وقالوا: إن هذا الذي أنت عليه فيما بينك وبين عدوك رأي المستضعفين، فقال: - رضي الله عنه -: أن أكون من المستضعفين في طاعة الله، أحب إلي من أن أكون من الأعزِّين في معصية الله.



    إن رضا الله - تبارك وتعالى - غاية يضحي المسلم في سبيلها بكل غاية، ويبذل في سبيل الحصول عليها كل غالٍ ونفيس، فرضوان الله هو النعمة العظمى التي سيتجلى الله بها على عباده المؤمنين في الجنة، يقول الحق - عز وجل -: ((وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)) (التوبة، الآية: 72).

    3 - موقف الحر بن يزيد - رحمه الله -:
    وهو أول من لقي الحسين في جيش الكوفة، وهو الذي حال بينه وبين الرجوع إلى المكان الذي أتى منه، ولكنه مع ذلك كان نبيلاً في معاملته للحسين - رضي الله عنه - فقد قال له: أنا لم أؤمر بقتالك، ولكني أمرت أن أخرج بك إلى الكوفة إن وجدتك، ولكني أقول لك: اختر مكاناً لا يؤدي بك إلى الكوفة ولا يعود بك إلى المدينة، ثم أكتب بعد ذلك إلى يزيد بن معاوية أو إلى ابن زياد إن شئت، ولم يكد يصل الجيش وعلى رأسه عمر بن سعد بن أبي وقاص، وتواجه كلا الفريقين، وتأكد الحرّ أن الحرب دائرة بينهما لا محالة، قال الحر لعمر بن سعد: أصلحك الله! أمقاتل أنت هذا الرجل؟ قال عمر؟ إي والله قتالاً أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي، عندئذ ضرب الحر فرسه، وانطلق به نحو الحسين، وانضم إلى جماعته، ثم قال: يا أهل الكوفة، لأمكم الهَبل، أدعوتم الحسين إليكم حتى إذا أتاكم أسلمتموه، وزعمتم أنكم قاتلوا أنفسكم دونه؟!، ثم عدوتم عليه لتقتلوه، ومنعتموه التوجه في بلاد الله العريضة الوسيعة التي لا يمنع فيها الكلب والخنزير، وحلتم بينه وبين الماء الفرات الجاري الذي يشرب منه الكلب والخنزير، وقد صرعهم العطش؟ بئس ما خلفتم محمداً في ذريته، لا أسقاكم الله يوم الظمأ الأكبر إن لم تتوبوا وتتراجعوا عما أنتم عليه من يومكم هذا في ساعتكم هذه، واعتذر الحر عن موقفه الأول من الحسين، وقبل الحسين عذره، فلما لامه بعض أصحابه عن الذهاب إلى الحسين قال: والله إني لأخير نفسي بين الجنة والنار، ووالله لا أختار على الجنة غيرها ولو قطعت وحرّقت.



    إن الحر بن يزيد - رحمه الله - غير موقفه من الحسين - رضي الله عنه - بعد أن جنح الحسين إلى السلم، ورأى أن موقفه ضده ليس فيه إنصاف ولا عدل، إذ كيف يقاتل رجلاً يدعو إلى السلم، ويطلبه، ويمد يده إلى عدوه ليصالحه، إن الرجولة تقتضي أن يكون الموقف مع هذا المسالم موقف العون وشد الأزر، وإن العقل يحكم بأن الحق مع من يطلب السلم وينشده، والحر يعلم أن الوقوف مع حسين والميل إليه ليس له معنى إلا الموت، ولكنه اختار الموت الذي يوصل إلى الجنة، ومما قيل في الحر بن يزيد التميمي من شعر ما قاله جعفر بن عفان الطائي:
    ولم يك فيهم رجل رشيد *** سوى الحر التميمي الرشيدِ
    فواحزناه إن بني عليٍّ *** وفاطم قد أبيدوا بالحديدِ



    4 - موقف النَّوار بنت مالك الحضرمية:
    وهي امرأة خوليِّ بن يزيد الذي بعثه عمر بن سعد برأس الحسين إلى عبيد الله بن زياد، فلما بلغ خولي الكوفة قصد القصر، فوجد بابه مغلقاً، فتوجه بالرأس الشريف إلى بيته، فوضعه هناك تحت إجانة -والإجانة إناء تغسل فيه الثياب - ثم دخل على زوجته، وآوى إلى فراشه فقالت له زوجته: ما الخبر عندك؟



    قال: جئتك بغنى الدهر، هذا رأس الحسين معك في الدار، فقالت: ويلك جاء الناس بالذهب والفضة، وجئت برأس ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! لا والله لا يجمع رأسي ورأسك بيت أبداً، هذه امرأة انتظرت زوجها طويلاً، ولكن زوجها جاءها بما عكر عليها صفوها، وكدر عليها حياتها، وأفسد عليها انتظارها الطويل، لقد كانت ترجو أن يعود إليها زوجها بأخبار سارة تشرح صدرها، وتملأ عليها نفسها سروراً، نعم، إن عودة زوجها إليها سالماً هي أحسن خبر يحمله لها، ولكنه لم يعد إليها خالي الوفاض من الذهب والفضة اللذين يعود بهما المحاربون عادة فقط، ولو كان الأمر كذلك لسُرَّت بعودته، وسلامته، ولكنه حمل إليها رأس الحسين ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم إنه يبلغها الخبر بفرحة تدل على رضاه وسروره، أفتفرح هي بذلك؟ إنه لو جاءها بالخبر دون أن يكون مصحوباً بالرأس كان ذلك كفيلاً بزيادة حزنها وأسفها، فكيف وهو يحدثها بالخبر مقروناً برأس الحسين - رضي الله عنه -!، إن كل مؤمن يحزنه الخبر، ويهدُّ نفسه سماعه، لهذا غادرت النوار فراش زوجها، وأقسمت ألا تجتمع معه في بيت أبداً.


    تاسعاً: موقف يزيد من قتل الحسين ومن أبناء الحسين وذريته:
    كتب عبيد الله بن زياد إلى يزيد بن معاوية يخبره بما حدث ويستشيره في شأن أبناء الحسين ونسائه، فلما بلغ الخبر يزيد بن معاوية بكى وقال: كنت أرضى من طاعتكم - أي أهل العراق - بدون قتل الحسين، كذلك عاقبة البغي والعقوق لعن الله ابن مرجانة، لقد وجده بعيد الرحم منه، أما والله لو أني صاحبه لعفوت عنه فرحم الله الحسين، وفي رواية أنه قال:... أما والله لو كنت صاحبه، ثم لم أقدر على دفع القتل عنه إلا ببعض عمري لأحببت أن أدفعه عنه، فجاء رد يزيد على ابن زياد يأمره بإرسال الأسارى إليه، وبادر ذكوان أبو خالد فأعطاهم عشرة آلاف درهم، فتجهزوا بها، ومن هنا يعلم أن ابن زياد لم يحمل آل الحسين بشكل مؤلم أو أنه حملهم مغللين، كما ورد في بعض الروايات، وقد مر معنا كيف أن ابن زياد قد أمر للأسارى بمنزل منعزل وأجرى عليهم الرزق والنفقة، وكساهم.



    وتذكر رواية عوانة أن محفز بن ثعلبة هو الذي قدم بأبناء الحسين على يزيد، ولما دخل أبناء الحسين على يزيد قالت: فاطمة بنت الحسين: يا يزيد: أبنات رسول الله - صلى الله عليه وسلم – سبايا؟! قال: بل حرائر كرام: أدخلي على بنات عمك تجديهن قد فعلن ما فعلت. قالت فاطمة: فدخلت إليهن فما وجدت فيهن سفيانية إلا ملتزمة تبكي.


    وعندما دخل علي بن الحسين قال يزيد: إن أباك قطع رحمي وظلمني فصنع الله به ما رأيت - وكان علي بن الحسين في معركة كربلاء لم يشترك بسبب المرض الذي كان ملازمه، وكان أثناء احتدام المعركة طريح الفراش فحمل إلى ابن زياد مع بقية الصبيان والنساء - فرد علي بن الحسين على يزيد (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (الحديد: 22). ثم طلب يزيد من ابنه خالد أن يجيبه، فلم يدر خالد ما يقول، فقال يزيد: قل له: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى: 30).


    وتحاول بعض الروايات ذات النزعات والميول الشيعية أن تصور أبناء الحسين وبناته وكأنهن في مزاد علني، جعل أحد أهل الشام يطلب من يزيد أن يعطيه إحدى بنات الحسين. فهذا من الكذب البين الذي لم يدعمه سند صحيح، ثم إنها مغايرة لما ثبت من إكرام يزيد لآل الحسين، ثم إن يزيد لم يستعرض النساء ويجعلهن عرضة للجمهور من أراد فليختر ما يشاء.
    وأرسل يزيد إلى كل امرأة من الهاشميات يسأل عن كل ما أخذ منهن، وكل امرأة تدعي شيئاً بالغاً ما بلغ إلا أضعفه لهن في العطية، وكان يزيد لا يتغذى ولا يتعشى إلا دعا علي بن الحسين.
    وذُكر إن رأس الحسين أرسل إلى يزيد فهذا لم يثبت، بل إن رأس الحسين بقي عند عبيد الله في الكوفة.



    عاشراً: رجوع أهل الحسين وأبنائه إلى المدينة:
    بعث يزيد إلى المدينة فقدم عليه ذوو السن من موالي بني هاشم ومن موالي بني علي، وبعد أن وصل الموالي أمر يزيد بنساء الحسين وبناته أن يتجهزن، وأعطاهن كل ما طلبن حتى لم يدع لهم حاجة بالمدينة إلا أمر بها، ثم أمر النعمان بن بشير أن يقوم بتجهيزهم، وقبل أن يغادروا قال يزيد لعلي بن الحسين إن أحببت أن تقيم عندنا فصل رحمك وتعرف لك حقك فعلت. ولكن علي بن الحسين اختار الرجوع إلى المدينة، وأكرم أبناء الحسين وخيّرهم بين المقام عنده والذهاب إلى المدينة، فاختاروا الرجوع إلى المدينة، وعند مغادرتهم دمشق كرَّر يزيد الاعتذار من علي بن الحسين وقال: لعن الله ابن مرجانة، أما والله لو أني صاحبه ما سألني خصلة أبداً إلا أعطيتها إياه، ولدفعت عنه الحتف بكل ما استطعت، ولو بهلاك بعض ولدي، ولكن الله قضى ما رأيت، كاتبني بكل حاجة تكون لك.



    وأمر يزيد بأن يرافق ذرية الحسين وفد من موالي بني سفيان، وكان عددهم ثلاثين فارساً، وأمر المصاحبين لهم أن ينزلوا حيث شاؤوا، ومتى شاءوا، وبعث معهم أيضاً محرز بن حريث الكلبي ورجلا من بهرا، وكانا من أفاضل أهل الشام، وخرج آل الحسين من دمشق محفوفين بأسباب الاحترام والتقدير حتى وصلوا إلى المدينة.
    قال ابن كثير في يزيد: وأكرم آل بيت الحسين ورد عليهم جميع ما فقد لهم وأضعافه، وردهم إلى المدينة في محامل وأهبة عظيمة، وقد ناح أهله على الحسين.
    ......يتبع.......
    SeIfElLaH
    SeIfElLaH
    مجلس المدراء
    مجلس المدراء


    الأوسمة : حقائق غائبة حول استشهاد الحسين - رضي الله عنه - وأحداث كربلاء 0ea39110
    عدد المساهمات : 4497
    نقاط : 6387
    تاريخ التسجيل : 22/03/2010
    العمر : 47

    حقائق غائبة حول استشهاد الحسين - رضي الله عنه - وأحداث كربلاء Empty رد: حقائق غائبة حول استشهاد الحسين - رضي الله عنه - وأحداث كربلاء

    مُساهمة من طرف SeIfElLaH الأربعاء أكتوبر 19, 2016 2:07 pm

    حقائق غائبة حول استشهاد الحسين - رضي الله عنه - وأحداث كربلاء
    (الحلقة 4) خروج الحسين بن علي رضي الله عنهما
    الكاتب: الدكتور علي محمد الصلابي



    حقائق غائبة حول استشهاد الحسين - رضي الله عنه - وأحداث كربلاء Do




    الحادي عشر: من المسئول عن قتل الحسين - رضي الله عنه -:
    إن المسئول عن قتل الحسين أطراف متعددة منها:




    1 - أهل الكوفة: إن أهل الكوفة هم الذين كاتبوا الحسين بن علي وهو في المدينة، ومنَّوه بالخروج حتى خرج إليهم، بالرغم من تحذيرات الصحابة له بعدم الخروج، ولما عين ابن زياد أميراً على الكوفة تأخر الناس عن نصرة الحسين وعن تأييده، بل وانخرطوا في الجيش الذي حاربه وقتله، ولذا عبَّر الحافظ ابن حجر عن موقف أهل الكوفة من الحسين بقول: فخُذِل غالب الناس عنه، فتأخروا رغبة ورهبة، ولما تقابل الحسين ومن معه مع جند الكوفة نادى الحسين زعماء أهل الكوفة قائلاً لهم: يا شبث بن ربعي، ويا حجار بن أبجر، ويا قيس بن الأشعث، ويا يزيد بن الحارث، ألم تكتبوا إلى أنه قد أينعت الثمار، واخضر الجناب، وطمت الجمام، وإنما تقدم على جند لك مجند، فأقبل؟!. قالوا: لم نفعل، فقال: سبحان الله! بلى والله لقد فعلتم، ثم قال: أيها الناس، إذا كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمني.


    وبالنظر إلى أقوال الصحابة - رضوان الله عليهم - فإن الاتهام موجه إلى أهل العراق، وذلك في المسؤولية المتعلقة بقتل الحسين - رضي الله عنه -، فهذه أم سلمة - رضي الله عنها - لما جاء نعي الحسين بن علي لعنت أهل العراق وقالت: قتلوه قتلهم الله - عز وجل - غرُّوه ودلُّوه لعنهم الله.


    وابن عمر - رضي الله عنهما - يقول لوفد من أهل العراق حينما سألوه عن دم البعوض في الإحرام، فقال: عجباً لكم يا أهل العراق! تقتلون ابن بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتسألون عن دم البعوض.


    ويقول البغدادي في كتابه الفرق بين الفرق: روافض الكوفة موصوفون بالغدر والبخل، وقد سار المثل بهم فيها، حتى قيل: أبخل من كوفي، وأغدر من كوفي، والمشهور من غدرهم ثلاثة أمور هي:
    أ - بعد مقتل علي - رضي الله عنه -، بايعوا الحسن، وغدروا به في ساباط المدائن، فطعنه سنان الجعفي.



    ب - كاتبوا الحسين - رضي الله عنه -، ودعوه إلى الكوفة لينصروه على يزيد، فاغتر بهم، وخرج إليهم، فلما بلغ كربلاء غدروا به وصاروا مع عبيد الله يداً واحدة عليه. حتى قتل الحسين وأكثر عشيرته بكربلاء.


    جـ - غدرهم بزيد بن علي بن الحسين، نكثوا بيعته، وأسلموه عند اشتداد القتال.


    إن جزءاً كبيراً من المسئولية يقع على أهل الكوفة، الذين جبنوا ونقضوا عهودهم.


    2 - عبيد الله بن زياد:
    استمد عبيد الله جبروته وبطشه بالمعارضين من موافقة الخليفة يزيد بن معاوية، فعندما أقدم على قتل مسلم بن عقيل النائب الأول عن الحسين بالكوفة، وداعيته هانيء بن عروة الزعيم لقبيلة مراد المشهورة، استحسن يزيد هذا الفعل، ولم يعترض عليه بل إنه لم يخف إعجابه به وبطشه وعسفه، فقد قال في ردِّه على رسالته: أما بعد، فإنك لم تعد إن كنت كما أحببت، عملت عمل الحازم، وصلت صولة الشجاع الرابط الجأش، فقد أغنيت وكفيت، وصدقت ظني بك، ورأيي فيك.



    فهذا التشيع دفع ابن زياد للشر أكثر، خصوصاً وأن نفسه كانت ميالة للشر بطبيعتها، متطلعة إلى الغلو في مسيرتها، متعطشة إلى الدماء في سلطانها، وإلا فماذا كان عليه لو أنه نهر شمر وعنفه وردعه على قوله، واستمر في قبول خطة السلم التي عرضها الحسين - رضي الله عنه -؟.


    إن النفوس الدنية التي ارتفعت بعد انحطاط، وعزت بعد ذل، وتمكنت بعد حرمان، يعزُّ عليها أن ترى الشرفاء الأمجاد، يتمتعون باحترام الناس وتقديرهم فتحاول أن تضع من مكانتهم، وتحط من منزلتهم إشباعاً لعقدة النقص التي تطاردهم في حياتهم، ولم يكن ابن زياد إلا واحداً من أصحاب هذه النفوس الدنية، فمن ابن زياد هذا - مهما كانت منزلته - إذا قورن بالحسين بن علي - رضي الله عنهما - لهذا رفض الحسين أن يضع يده في يد ابن زياد، وقال: لا أعطيهم بيدي إعطاء العبد الذليل، وقال عمر بن سعد لما وصله كتاب ابن زياد: لا يستسلم والله الحسين، إن نفساً أبية لبين جنبيه. لقد كان عبيد الله بن زياد والياً ظالماً قبيح السريرة وهو الذي دخل عليه عائذ بن عمرو المزني، وكان من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال لعبيد الله: أي بني: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن شر الرِّعاء الحُطمة)) فإياك أن تكون منهم، فقال له، اجلس فإنما أنت من نخالة أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، فقال: هل كانت لهم نخالة؟ إنما كانت النخالة بعدهم، وفي غيرهم.


    لقد كان يتوجب على ابن زياد أن يلبي مطالب الحسين، وأن يتركه يذهب إلى يزيد، أو أي مكان آخر، خاصة أنه لن يدخل الكوفة، وقد قال ابن الصلاح في فتاويه: والمحفوظ أن الآمر بقتاله المفضي إلى قتله إنما هو ابن زياد،.


    وقال يوسف العش: وينبغي لنا أن نقول: إن المسؤول عن قتل الحسين هو أولاً شمر، وثانياً عبيد الله بن زياد.


    والصحيح أن المسئولية الأولى والإثم الأكبر في هذه المذبحة تقع على عاتق ابن زياد؛ لأنه مدبر هذا الأمر كله، وهو الذي رفض عروض الحسين، والتاريخ يستنكر كل ما فعله، ويذمه أشد الذم، ويدمغه بالبغي والطغيان.


    ويقول الذهبي في نهاية ترجمة عبيد الله: الشيعي لا يطيب عيشه حتى يلعن هذا ودونه، ونحن نبغضهم في الله، ونبرأ منهم، ولا نلعنهم وأمرهم إلى الله.


    3 - عمر بن سعد بن أبي وقاص قائد الجيش:
    ومن المسئولين عن قتل الحسين - رضي الله عنه - قائد جيشه عمر بن سعد بن أبي وقاص، وبئس الخلف للسلف، أو الابن لأبيه ثم الجنود الذين نفذوا أوامرهم في غير ما رحمة، وكان لهم مندوحة أن ينأوا عن ذلك، أو ينضموا إلى جانب الحسين، كما فعل الحر بن يزيد التميمي القائد الأول الذي أرسله بن زياد، ثم رأى أن ابن زياد وصحبه اعتدوا وطغوا حين رفضوا عروض الحسين المنصفة، فتحول إلى معسكر الحسين وقاتل معه حتى قتل شهيداً.



    إن عمر بن سعد لم يخرج ابتداءً لقتال الحسين، ولكنه كان خارجاً لقتال الديلم في أربعة آلاف مقاتل، فلما بلغ ابن زياد أمر حسين سيره إليه، وقال له: قاتل حسيناً فإذا انتهيت فانصرف إلى الديلم، وكان قد ولاه إمارة الرَّيِّ واستعفى عمرُ ابنَ زياد من قتال الحسين، ولكن ابن زياد هدده بخلعه عن إمارة الرَّي فتراجع عمر، وقال له: حتى أنظر، وأخذ يستشير الناس، وكلهم نصحوه بعدم الخروج إلى الحسين، وقال له ابن أخته - حمزة بن المغيرة بن شعبة -: أنشدك الله يا خال، أن تسير إلى الحسين فتأثم بربك، وتقطع رحمك، فوالله لأن تخرج من دنياك ومالك وسلطان الأرض كلها -لو كان لك-، خير لك من أن تلقى الله بدم الحسين. فقال عمر بن سعد: فإني أفعل -إن شاء الله-.
    وبرغم نصح الناصحين، وترهيب المرهبين، إلا أن نفس ابن سعد كانت متعلقة بالدنيا وحب الإمارة ومشغولة بالمنصب وتقلد الإدارة.
    والحق يقال: إنه اجتهد في محاولة إيجاد مخرج يبتعد منه عن قتال الحسين ومن معه، ولكنه لم يوفق في شيء.
    إن النفوس المتطلعة إلى الدنيا، تنسى في سبيلها شهامة الرجال، ومروءة الكرام، بل تنسى ما هو أعظم من ذلك موقفَها بين يدي الله - عز وجل -، وأنها ستحاسب على كل عمل تعمله، بل تنسى بديهيات الأمور، حيث تنسى فناء الدنيا، وزوال المنصب، وضياع الجاه والسلطان، لقد كان عمر بن سعد في غنى عن أن يقرن اسمه بأسماء الخونة الغادرين، وأن يسجل في سجل المعتدين الآثمين، لو أنه ضحى بالمنصب، وقبل طاعة الله ورسوله، ولو أنه فعل ما فاته شيء مما كُتب له من متاع الدنيا، ولكان عند الله من الأبرار الصالحين.



    4 - يزيد بن معاوية:
    وأما يزيد، فظاهر الأمر أنه كره قتل الحسين - رضي الله عنه - وحاول أن يمنعه من الخروج، فكتب إلى ابن عباس، يسأله أن يكف الحسين عن الخروج، وحين وضعت الرأس الشريفة بين يديه وقال: لعن الله ابن مرجانة كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين، أما والله لو أني صاحبه لعفوت عنه.



    وهذا البكاء على الحسين، وسب ابن مرجانة لا يرفع اللوم عن يزيد، ولا يخليه من تبعة قتل الحسين وأصحابه، ذلك لأنه كان قادراً على أن يوجه أوامر صريحة لابن زياد بعدم قتل الحسين - رضي الله عنه -، والتصرف معه بكل حكمة وتعقل؛ حفظاً لرحمه وقرابته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومكانته في قلوب المسلمين.
    إن تحمل يزيد لمسؤولية قتل الحسين - رضي الله عنه – قائمة، كيف وقد قتل في خلافته وعلى أرض تسيطر عليها جيوشه؟، وقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يحمِّل نفسه مسؤولية بغلة عثرت في العراق أو في الشام، لم يسوِّ لها الطريق، فكيف إذا كان القتلة هم جند أمير المؤمنين؟.



    إن مقتل الحسين - رضي الله عنه - سيظل وصمة عار ونقطة سوداء في عهد يزيد بن معاوية بن أبي سفيان.


    الثاني عشر: أقوال الناس في يزيد وهل يجوز لعنه؟

    افترق الناس في يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ثلاث فرق طرفان ووسط، فأحد الطرفين قالوا: إنه كان كافراً منافقاً، وإنه سعى في قتل سبط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تشفياً من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وانتقاماً منه، وأخذاً بثأر جده عتبة وأخي جده شيبة، وخاله الوليد بن عتبة، وغيرهم ممن قتلهم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بيد علي بن أبي طالب وغيره يوم بدر، وقالوا: تلك أحقاد بدرية، وآثار جاهلية وأنشدوا عنه:
    لما بدت تلك الحمول وأشرفت *** تلك الرؤوس على ربى جيروني
    نعق الغراب، فقلت: نح أولاً تنح *** فلقد قضيت من النبي ديوني
    وقالوا: إنه تمثل بشعر ابن الزَّبعري الذي أنشده يوم أحد:
    ليت أشياخي ببدر شهدوا *** جزع الخزرج من وقع الأسل
    قد قتلنا الكثر من أشياخهم *** وعدلناه ببدر فاعتدل
    وأشياء من هذا النمط، وهذا القول سهل على الرافضة الذين يكفرون أبا بكر، وعمر، وعثمان، فتكفير يزيد أسهل.



    والطرف الثاني: يظنون أنه كان رجلاً صالحاً وإمام عدل، وأنه كان من الصحابة الذين ولدوا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحمله على يديه وبرَّك عليه، وربما فضله بعضهم على أبي بكر وعمر، وربما جعله بعضهم نبياً، ويقولون عن الشيخ عدي أو حسن المقتول - كذباً عليه - إن سبعين ولياً صرفت وجوههم عن القبلة لتوقفهم في يزيد، وهذا قول غالية العدوية، ونحوهم من الضلال، فإن الشيخ عدياً كان من بني أمية وكان رجلاً صالحاً عابداً فاضلاً، ولم يحفظ عنه أنه دعاهم إلا إلى السنة التي يقولها غيره كالشيخ أبي الفرج المقدسي، فإن عقيدته موافقة لعقيدته، لكن زادوا في السنة أشياء كذبا وضلالا من الأحاديث الموضوعة، والتشبيه الباطل، والغلو في الشيخ عدي وفي يزيد، والغلو في ذم الرافضة، بأنه لا تقبل لهم توبة وأشياء أخر.


    وكلا القولين ظاهر البطلان عند من له أدنى عقل وعلم بالأمور وسير المتقدمين، ولهذا لا ينسب إلى أحد من أهل العلم المعروفين بالسنة، ولا إلى ذي عقل من العقلاء الذين لهم رأي وخبرة.


    والقول الثالث: أنه كان ملكاً من ملوك المسلمين، له حسنات وسيئات، ولم يكن كافراً، ولكن جرى بسببه ما جرى من مصرع الحسين، وفعل ما فعل بأهل الحرة، ولم يكن صاحباً ولا من أولياء الله الصالحين، وهذا قول عامة أهل العقل والعلم والسنة والجماعة.
    ثم افترقوا ثلاث فرق: فرقة لعنته، وفرقة أحبته، وفرقة لا تسبه ولا تحبه، وهذا هو المنصوص عن الإمام أحمد وعليه المقتصدون من أصحابه وغيرهم من جميع المسلمين. قال صالح بن أحمد: قلت لأبي: إن قوماً يقولون: إنهم يحبون يزيد، فقال: يا بني، وهل يحب يزيد أحد يؤمن بالله واليوم الآخر؟ فقلت: يا أبت، فلماذا لا تلعنه؟ فقال: يا بني، ومتى رأيت أباك يلعن أحداً؟. وقال مهنا: سألت أحمد عن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، فقال: هو الذي فعل بالمدينة ما فعل قلت: وما فعل؟ قال: قتل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفعل. قلت: وما فعل؟ قال: نهبها. قلت: فيذكر عنه الحديث؟ قال: لا يذكر عنه حديث. وهكذا ذكر القاضي أبو يعلي وغيره، وقال أبو محمد المقدسي لما سئل عن يزيد: فيما بلغني لا يُسَبُّ ولا يُحَبُّ. وقال ابن تيمية: وبلغني - أيضاً- أن جدنا أبا عبد الله بن تيمية سئل عن يزيد. فقال: لا تنقص ولا تزيد. وهذا أعدل الأقوال فيه وفي أمثاله وأحسنها، أما ترك سبه ولعنته فبناء على أنه لم يثبت فسقه الذي يقتضي لعنه، أو بناء على أن الفاسق المعين لا يلعن بخصوصه، إما تحريماً، وإما تنزيهاً، فقد ثبت في صحيح البخاري عن عمر في قصة "حمار" الذي تكرر منه شرب الخمر وجلده: لما لعنه بعض الصحابة قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تلعنه؛ فإنه يجب الله ورسوله)). وقال: ((لعنُ المؤمن كقتله)) هذا مع أنه قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم – أنه لعن عموماً شارب الخمر، ونهى في الحديث الصحيح عن لعن هذا المعين، وهذا كما أن نصوص الوعيد عامة في أكل أموال اليتامى، والزاني والسارق، فلا نشهد بها عامة على معين بأنه من أصحاب النار؛ لجواز تخلف المقتضَى عن المقتضي لمعارض راجح: إما توبة، وإما حسنات ماحية، وإما مصائب مكفرة وإما شفاعة مقبولة وإما غير ذلك. ومن اللاعنين من يرى أن ترك لعنته مثل ترك سائر المباحات من فضول القول، لا لكراهة في اللعنة، وأما ترك محبته، فلأن المحبة الخاصة إنما تكون للنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وليس واحداً منهم، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((المرء مع من أحب))، ومن آمن بالله واليوم والآخر، لا يختار أن يكون مع يزيد ولا مع أمثاله من الملوك، الذين ليسوا بعادلين.



    ولترك المحبة مأخذان: أحدهما: أنه لم يصدر عنه من الأعمال الصالحة ما يوجب محبته، فبقي واحداً من الملوك المسلطين ومحبة أشخاص هذا النوع ليست مشروعة، وهذا المأخذ ومأخذ من لم يثبت عنده فسقه اعتقد تأويلاً.


    والثاني: أنه صدر عنه ما يقتضي ظلمه وفسقه في سيرته من أمر الحسين وأمر أهل الحرة.


    وأما الذين لعنوه من العلماء كأبي الفرج ابن الجوزي، والكيا الهراسي وغيرهما، فلما صدر عنه من الأفعال التي تبيح لعنته، ثم قد يقولون: هو فاسق، وكل فاسق يلعن، وقد يقولون بلعن صاحب المعصية وإن لم يحكم بفسقة،... وقد يلعن لخصوص ذنوبه الكبار، وإن كان لا يلعن سائر الفساق، كما لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنواعاً من أهل المعاصي، وأشخاصاً من العصاة وإن لم يلعن جميعهم فهذه ثلاثة مآخذ للعنته.


    وأما الذين سوغوا محبته أو أحبوه، كالغزالي، والدستي فلهم مأخذان: أحدهما: أنه مسلم ولي أمر الأمة على عهد الصحابة وتابعه بقاياهم، وكانت فيه خصال محمودة، وكان متأولاً فيما ينكر عليه من أمر الحرة وغيره، فيقولون: هو مجتهد مخطيء، ويقولون: إن أهل الحرة هم نقضوا بيعته أولاً، وأنكر ذلك عليهم ابن عمر وغيره، وأما قتل الحسين فلم يأمر به ولم يرضَ به، بل ظهر منه التألم لقتله، وذم من قتله، ولم يحمل الرأس إليه، وإنما حمل إلى ابن زياد. والمأخذ الثاني: أنه قد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أول جيش يغزو القسطنطينية مغفور له)). وأول جيش غزاها كان أميره يزيد.
    والتحقيق أن هذين القولين يسوغ فيهما الاجتهاد، وكذلك محبة من يعمل حسنات وسيئات، بل لا يتنافى عندنا أن يجتمع في الرجل الحمد والذم، والثواب والعقاب، كذلك لا يتنافى أن يصلى عليه ويدعى له، وأن يلعن ويشتم أيضاً باعتبار وجهين؛ فإن أهل السنة متفقون على أن فساق أهل الملة - وإن دخلوا النار، أو استحقوا دخولها - فإنهم لا بد أن يدخلوا الجنة، فيجتمع فيهم الثواب والعقاب، ولكن الخوارج والمعتزلة تنكر ذلك، وترى أن من استحق الثواب لا يستحق العقاب، ومن استحق العقاب لا يستحق الثواب.



    وأما جواز الدعاء للرجل وعليه... فإن موتى المسلمين يُصلي عليهم، برهم وفاجرهم، وإن لعن الفاجر مع ذلك بعينه أو بنوعه، لكن الحال الأول أوسط وأعدل، وبذلك أجاب ابن تيمية - رحمه الله - مقدم المغول بولاي، لما قدموا دمشق في الفتنة الكبيرة وجرت بينهما وبين غيره مخطابات، فسأل ابن تيمية: ما تقولون في يزيد؟ فقال: لا نسبه ولا نحبه، فإنه لم يكن رجلاً صالحاً فنحبه، ونحن لا نسب أحداً من المسلمين بعينه، فقال أفلا تلعنونه؟ أما كان ظالماً؟ أما قتل الحسين؟ فقلت له: نحن إذا ذكر الظالمون - كالحجاج بن يوسف وأمثاله - نقول كما قال الله في القرآن: (ألا لعنة الله على الظالمين) (هود: 18) ولا نحب أن نلعن أحداً بعينه، وقد لعنه قوم من العلماء، وهذا مذهب يسوغ فيه الاجتهاد، لكن هذا القول أحب إلينا وأحسن، وأما من قتل الحسين أو أعان على قتله، أو رضي بذلك، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً. قال: فما تحبون أهل البيت؟ قلت محبتهم عندنا فرض واجب يؤجر عليه، فإنه قد ثبت عندنا في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغدير يدعى خمّا، بين مكة والمدينة فقال: ((أيها الناس إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله))، فذكر كتاب الله وحض عليه، ثم قال: ((وعترتي أهل بيتي))... قال ابن تيمية لمقدم المغول: ونحن نقول في صلاتنا كل يوم: اللهم صلِّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد. قال مقدم المغول: فمن يبغض أهل البيت؟ قال: من أبغضهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ولا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً. ثم قال ابن تيمية للوزير المغولي: لأي شيء قال عن يزيد وهذا تتريٌّ؟ قال: قد قالوا له: إن أهل دمشق نواصب، قال ابن تيمية بصوت عال: يكذب الذي قال هذا، ومن قال هذا، فعليه لعنة الله، والله ما في أهل دمشق نواصب، وما علمت فيهم ناصبيا ولو تنقص أحد علياً بدمشق لقام المسلمون عليه، وعلينا أن نعرف أن لعن يزيد لم ينتشر إلا بعد أن قامت الدولة العباسية، وأفسحت المجال للنيل من بني أمية، وأما الحديث الذي ورد مرفوعاً: ((لا يزال أمر أمتي قائماً، حتى يثلمه رجل من بني أمية يقال له: يزيد))، فهو حديث غير صحيح؛ لأن فيه أكثر من علة، فقد رواه أبو يعلى في مسنده من طريق صدقة السمين، عن هشام، عن مكحول عن أبي عبيدة مرفوعاً وفيه علتان.


    أ - ضعف صدقة السمين، وهو أبو معاوية، صدقة بن عبد الله السمين، الدمشقي، ضعفه ابن معين والبخاري وأبو زرعة والنسائي، وقال أحمد: ما كان من حديثه مرفوعاً فهو منكر، وما كان من حديثه مرسلاً عن مكحول فهو أسهل، وهو ضعيف جداً، وقال أيضاً: ليس يسوى شيئاً، أحاديثه مناكير، وقال الدَّارقطني: متروك


    ب - إن هناك انقطاعاً بين مكحول وأبي عبيدة؛ لأنه لم يدركه.
    وقد تحدث ابن كثير عن الأحاديث في ذم يزيد فقال: وقد أورد ابن عساكر أحاديث في ذمِّ يزيد بن معاوية كلها موضوعة لا يصح منها شيء، وأجود ما ورد ما ذكرناه على ضعف أسانيده وانقطاع بعضه، والله أعلم.



    الثالث عشر: التحذير من أساطير حول مقتل الحسين - رضي الله عنه -:

    إن الشيعة بالغوا في نقل أخبار تلك الحادثة، وامتلأت كتب التاريخ بحوادث عجيبة، قيل: إنها وقعت إثر مقتل الحسين، من احمرار الأفق، وتدفق الدماء من تحت الحجارة، وبكاء الجنِّ، إلى غير ذلك من الخيال الذي نسجته عقول الشيعة يومئذ، وما زالوا يردِّدونه إلى اليوم تضخيماً لهذا الحادث على حساب غيره من الأحداث الأخرى، وإن الذي يدرس أسانيد تلك الأخبار والرِّوايات لا يرى إلا ضعفاً هالكاً، أو مجهولاً لا يعرف أصله أو مدلِّساً يريد تعمية الأبصار عن الحقائق، ومن أكاذيب مؤرخي الشيعة على سبيل المثال في هذه الموقعة: أن السبايا حملن على نجائب الإبل عرايا حتى إن الإبل البخاتي إنما نبتت لها الأسنمة من ذلك اليوم؛ لتستر عوارتهن من قبلهن ودبرهن. وقال ابن كثير: ولقد بالغ الشِّيعة في يوم عاشوراء، فوضعوا أحاديث كثيرة وكذباً فاحشاً، من كون الشمس كسفت يومئذ حتى بدت النجوم، وما رفع يومئذ حجر إلا وجد تحته دم، وأن أرجاء السماء احمرَّت، وأن الشمس كانت تطلع وشُعاعُها كأنه الدم، وصارت السماء كأنها علقة، وأن الكواكب صار يضرب بعضها بعضاً، وأمطرت السماء دماً أحمر، وأن الحمرة لم تكن في السماء قبل يومئذ، وأن رأس الحسين لما دخلوا به قصر الإمارة جعلت الحيطان تسيل دماً، وأن الأرض أظلمت ثلاثة أيام، ولم يُمسَّ زعفران ولا ورس مما كان معه يومئذ إلا احترق مسه، ولم يرفع حجر من حجارة بيت المقدس إلا ظهر تحته دم عبيط، وأن الإبل التي غنموها من إبل الحسين حين طبخوها صار لحمها مثل العلقم... إلى غير ذلك من الأكاذيب والأحاديث الموضوعة التي لا يصح منها شيء.



    • انتقام الله من قتلة الحسين:
    وأما ما رُوِيَ من الأمور والفتن التي أصابت من قتله فأكثرها صحيح فإنَّه قَلَّ من نجا منهم في الدنيا إلا أُصيب بمرض، وأكثرهم أصابه الجنون، وللشيعة والرافضة في صفة مصرع الحسين - رضي الله عنه -، كذب كثير وأخبار طويلة، وفيما ذكرناه كفاية، وفي بعض ما أوردنا نظر، ولولا أن ابن جرير وغيره من الحفاظ الأئمة ذكروه ما سُقته، وأكثره من رواية أبي مخنف لوط بن يحي، وقد كان شيعياً وهو ضعيف الحديث عند الأئمة، ولكنه أخباري حافظ عنده من هذه الأشياء ما ليس عند غيره، ولهذا يترامى عليه كثير من المصنِّفين ممَّن بعده والله أعلم.



    ويقول ابن تيمية - رحمه الله -: وأما السؤال عن سَبْي أهل البيت وإراكابهم حتى نبت لها سنامان وهي البخاتي ليستتروا بذلك، فهذا من أقبح الكذب وأبينه، وهو مما افتراه الزنادقة والمنافقون، الذين مقصودهم الطعن في الإسلام وأهله من أهل البيت، وغيرهم، فإن من سمع مثل هذا وشهرته وما فيه من الكذب قد يظن أو يقول: إن المنقول إلينا من معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء هو من الجنس، ثم إذا تبين أن الأمة سبَّتْ أهل بيت نبيها، كان فيها من الطعن في خير أمة أخرجت للناس ما لا يعلمه إلا الله؛ إذ كل عاقل يعلم أن الإبل البَخَاتي كانت مخلوقة موجودة قبل أن يبعث الله النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقبل وجود أهل البيت، كوجود غيرها من الإبل والغنم، والبقر والخيل والبغال، وللأسف الشديد، فقد شحنت المصادر التاريخية الإسلامية، مثل تاريخ الطبري، وتاريخ ابن عساكر وغيرهما بمثل هذه الأباطيل والأكاذيب، مما يتطلب تحقيقاً علمياً لهذين الكتابين خاصة، ولغيرهما من كتب التاريخ.
    ..... يتبع......
    SeIfElLaH
    SeIfElLaH
    مجلس المدراء
    مجلس المدراء


    الأوسمة : حقائق غائبة حول استشهاد الحسين - رضي الله عنه - وأحداث كربلاء 0ea39110
    عدد المساهمات : 4497
    نقاط : 6387
    تاريخ التسجيل : 22/03/2010
    العمر : 47

    حقائق غائبة حول استشهاد الحسين - رضي الله عنه - وأحداث كربلاء Empty رد: حقائق غائبة حول استشهاد الحسين - رضي الله عنه - وأحداث كربلاء

    مُساهمة من طرف SeIfElLaH الخميس أكتوبر 20, 2016 2:24 pm

    حقائق غائبة حول استشهاد الحسين - رضي الله عنه - وأحداث كربلاء
    (الحلقة 5) خروج الحسين بن علي رضي الله عنهما
    الكاتب: الدكتور علي محمد الصلابي



    حقائق غائبة حول استشهاد الحسين - رضي الله عنه - وأحداث كربلاء Do


    الرابع عشر: ما قيل من رثاء في الحسين - رضي الله عنه -:
    قال سليمان بن قَتَّة التيمي:



    وإن قتيل الطَّف من آل هاشم *** أذل رقاباً من قريش فذلَّتِ
    مررت على أبيات آل محمد *** فألفيتها أمثالها حين حُلَّتِ
    وكانوا لنا غُنْماً فعادوا رزيّة *** لقد عظمت تلك الرازيا وجَلَّتِ
    فلا يبعد الله الديار وأهلها *** وإن أصبحت منهم برغمي تخلتِ
    إذا افتقرت قيسٌ جبرنا فقيرَها *** وتقتلنا قيس إذا النَّعلُ زلَّتِ
    وعند غنيٍّ قطرة من دماءنا *** سنجزيهم يوماً بها حيث حَلَّتِ
    ألم تر أن الأرض أضحت مريضة *** لفقد حسين والبلاد اقشعرَّتِ



    وقال أبو الأسود الدِّيْلي في قتل الحسين - رضي الله عنه -:


    أقول وذاك من جزع ووجد *** أزال الله ملك بني زيادِ
    وأبعدهم بما غدروا وخانوا *** كما بعدت ثَمود وقوم عادِ
    هموا خَشَمُوا الأنوف وكنَّ شُمًّا *** لقتل ابن القُعَاسِ أخي مرادِ
    قتيل السوق يا لك من قتيل *** به نضحٌ من احمرَ كالجِسادِ
    وأهل نبينا من قبل كانوا *** ذوي كرم دعائم للبلادِ
    حسين ذو الفضول وذو المعالي *** يزين الحاضرين وكَّلَّ بادِ
    أصاب العِزَّ مَهْلِكُهُ فأضحى *** عميداً بعد مصرعه فؤادي


    وقال عبيد الله بن الحر أيضاً:


    يا لكِ حسرة ما دمت حيا *** تردَّد بين حلقي والتَّراقي
    حسيناً حين يطلب بذل نصري *** على أهل العداوة والشِّقاقِ
    ولو أني أواسيه بنفسي *** لنلت كرامة يوم التَّلاقِ
    مع ابن المصطفى نفسي فداه *** فولَّى ثم ودَّعَ بالفراقِ
    غداة يقول لي بالقصر قولا *** أتتركنا وتُزمع بانطلاق؟
    فلو فلق التَلهّفُ قلب حَيٍّ *** لهمَّ اليومَ قلبي بانطلاق
    فقد فاز الأُولى نصروا حسيناً *** وخاب الآخرون أولو النفاق


    وقال شاعر الإسلام محمد إقبال:


    وحسين في الأبرار والأحرار ما *** أزكى شمائله وما أنداها
    فتعلموا ريَّ اليقين من الحسين *** إذا الحسين وقد أجاب نداها
    الأمهات يلدن للشمس الضياء *** وللجواهر حسنها وصفاها


    المبحث الرابع: أهم الدروس والعبر والفوائد:

    أولاً: يوم عاشوراء: وهو اليوم العاشر من محرم الحرام، وقد ابتُدع فيه بدع منكرة، وهلك فيه طائفتان بين إفراط وتفريط، طائفة تجعله يوم فرح وسرور وأخرى يوم حزن ونياحة.



    لقد غلت الشيعة في مقتل الحسين - رضي الله عنه - غلواً مفرطاً، فجعلوا يوم استشهاده - رضي الله عنه - العاشر من محرم مأتماً وحزناً ونياحة يكررونه في كل عام إلى يومنا هذا، ورتبوا على هذا الفعل الأجر والثواب، فهو جالب للمغفرة والرحمة، مكفرة للذنوب والخطايا في زعمهم، فقد روي الطوسي في أماليه بسنده عن الرضا - عليه السلام - أنه قال من ترك السعي في حوائجه يوم عاشوراء قضى الله له حوائج الدنيا والآخرة، ومن كان يومُ عاشوراء يومَ مصيبته وحزنه وبكائه جعل الله - عز وجل - يومَ القيامة يومَ فرحه، وسروره، وقرت بنا في الجنان عينه.


    وبسنده أيضاً عن أبي عمارة الكوفي قال: سمعت جعفر بن محمد - عليه السلام - يقول: من دمعت عينه دمعة لدمٍ سفك لنا، أو حقٍ لنا أنقصناه، أو عرض انتهك لنا أو لأحد من شيعتنا بوأه الله - تعالى – بها في الجنة أحقاباً.


    وروى البرفي بسنده عن جعفر الصادق أنه قال: من ذكر عنده الحسين فخرج من عينه دمع مثل جناح بعوضة غفر له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر.


    وقد بوب المجلسي باباً قال فيه: باب ثواب البكاء على مصيبته ومصائب سائر الأئمة: وفيه أدب المأتم يوم عاشوراء، وساق فيه أكثر من ثمان وثلاثين رواية منها: ما رواه بسنده عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال: كل الجزع والبكاء مكروه سوى الجزع والبكاء على الحسين - عليه السلام -.


    بل زعموا أن السماء والأرض بكت لقتله فأمطرت السماء دماً وتراباً أحمر، كما بكت الملائكة والجن وسائر المخلوقات، ولم يكتفوا بذلك حتى قالوا بتحريم يوم عاشوراء، وأن من صامه فهو عدو للحسين وأهل بيته - رضي الله عنهم - أجمعين، فقد روى الكليني بسنده عن جعفر بن عيسى قال: سألت الرضا - عليه السلام - عن صوم يوم عاشوراء، وما يقول الناس فيه، فقال: عن صوم ابن مرجانة تسألني، ذلك يوم صامه الأدعياء من آل زياد؛ لقتل الحسين - عليه السلام - وهو يوم يتشاءم به آل محمد - صلى الله عليه وسلم - ويتشاءم به أهل الإسلام، لا يصام ولا يتبرك به، ويوم الاثنين يوم نحس قبض الله - عز وجل - فيه نبيه، وما أصيب آل محمد إلا في يوم الاثنين، فتشاءمنا به، وتبرك به ابن مرجانة، وتشاءم به آل محمد - صلى الله عليه وسلم -، فمن صامهما أو تبرك بهما لقي الله - تبارك وتعالى - ممسوخ القلب، وكان حشره مع الذين سنوا صومهما والتبرك بهما.


    والأكاذيب في هذا الباب كثيرة، وهذه المآتم تظهر علناً كلما قويت شوكة الشيعة أو ظهرت لهم دولة ففي دولة بني بويه الشيعية في سنة اثنين وخمسين وثلاثمائة ألزم معز الدولة ابن بابويه يوم عاشوراء أهل بغداد بالنواح على الحسين - رضي الله عنه -، وأمر بغلق الأسواق ومنع الطباخين من عمل الأطعمة، وخرجت نساء الشيعة منشرات الشعور، مضخمات الوجوه يلطمن ويفتن الناس، وهذا أول ما نيح عليه، كما اتخذت الدولة العبيدية الفاطمية على كثرة أعيادها ومناسباتها يوم عاشوراء يوم حزن ونياحة، فكانت تتعطل فيه الأسواق ويخرج فيه المنشدون في الطرقات، وكان الخليفة يجلس في ذلك اليوم متلثماً يرى به الحزن، كما كان القضاة، والدعاة، والأشراف، والأمراء يظهرون وهم ملثمون حفاة، فيأخذ الشعراء بالإنشاد ورثاء أهل البيت، وسرد الروايات والقصص التي اختلقوها في مقتل الحسين - رضي الله عنه -.


    ومن مظاهرهم في هذه الأيام خروج المواكب العزائية في الطرقات والشوارع مظهرين اللطم بالأيدي على الخدود والصدور، والضرب بالسلاسل والحديد على الأكتاف حتى تسيل الدماء، وقد وصف ابن كثير ما يفعل الشيعة من تعدٍّ لحدود الكتاب والسنة في دولة بني بويه في حدود الأربعمائة وما حولها فقال: فكانت الدَّبادب تضرب ببغداد ونحوها من البلاد في يوم عاشوراء ويُذَرُّ الرماد والتبن في الطرقات والأسواق، وتعلق المسوح على الدكاكين ويظهر الناس الحزن والبكاء، وكثير منهم لا يشرب الماء ليلتئذ موافقة للحسين، لأنه قتل عطشان ثم تخرج النساء حاسرات عن وجوههن ينحن ويلطمن وجوههن وصدورهن حافيات في الأسواق.. إلى غير ذلك من البدع الشنيعة، والأهواء الفظيعة، والهتائك المخترعة وإنما يريدون بهذا وأشباهه أن يُشنِّعوا على دولة بني أمية؛ لأنه قتل في أيامهم.


    وقد جوَّز علماء الشيعة ما يسمونه بالمواكب العزائية فقد أجاب محمد حسين الغروي النائيني عندما وجهت إليه أسئلة حول المواكب العزائية إذ قال:


    1 - خروج المواكب العزائية في عشرة عاشوراء ونحوها إلى الطرقات والشوارع مما لا شبهة في جوازه ورجحانه وكونه من أظهر مصاديق ما يقوم به عزاء المظلوم، وأيسر الوسائل لتبليغ الدعوة الحسينية إلى كل قريب وبعيد.


    2 - لا إشكال في جواز اللطم بالأيدي على الخدود والصدور حد الاحمرار والاسوداد، بل يقوي جواز الضرب بالسلاسل أيضاً على الأكتاف والظهور إلى الحد المذكور، بل وإن أدى كل من اللطم والضرب إلى خروج دم يسير على الأقوى، وأما إخراج الدم من الناحية بالسيوف والقامات فالأقوى جواز ما كان ضرره مأموناً.
    3 - الظاهر عدم الإشكال في جواز التشبيهات والتمثيلات التي جرت عادة الشيعة الإمامية باتخذها لإقامة العزاء والبكاء والإبكاء منذ قرون، وإن تضمنت لبس الرجال ملابس النساء على الأقوى.
    فهذه الفتوى المعمول بها اليوم لدى الشيعة وعليها الإجماع وقد قرضها أكثر من اثني عشر من علمائهم.



    وفي وصف هذه المظاهر يقول ناصر الدين شاه: وفي الهند وباكستان وإيران والعراق تكتسي هذه المآتم حللاً مركبة؛ إذ يخرج الرجال في الطرقات وهم يسيرون وراء هودج قد يبالغون في ارتفاعه حتى يبلغ بضعة أمتار، وهم عراة، وفي أيديهم زناجير من حديد، وفي رؤوسها شفرات صغيرة حادة يضربون بها صدورهم وظهورهم حتى تسيل الدماء منهم، وفي كثير من الأحيان يموت بعضهم، أما النساء فإنهن يجلسن في دورهن ينحن ويبكين ويلطمن صدورهن بأيديهن كل هذا؛ تكريماً للحسين الذي قتل مظلوماً بزعمهم.


    ويقول السيد محسن الأمين الحسيني العاملي معللاً إقامة المآتم: ونريد بإقامة المآتم: البكاء لقتله - عليه السلام - بإخراج الدمع بصوت وبدونه والتعرض لما يسبب ذلك، وإظهار شعار الحزن والتأسف والتألم لما صدر عليه، وتذكر مصابه ونظم الأشعار في رثائه، وتلاوتها واستماعها وتهييج النفوس بها للحزن والبكاء.
    ولم يكتفوا بذلك، يقول الخميني: إن البكاء على سيد الشهداء - عليه السلام - وإقامة المجالس الحسينية هي التي حفظت الإسلام منذ أربعة عشر قرناً.



    فمتى كان البكاء دعوة ومتى كان العويل جهاداً؟ فهذا معتقد الشيعة الإمامية في مقتل الحسين وفي يوم عاشوراء، فهل هذا الفعل من الإسلام في شيء؟


    إن الحسين - رضي الله عنه - بريء من تلك الأفعال المذكورة لأن الإسلام الذي جاء به جده - عليه الصلاة والسلام - لا يجوِّز تلك الأفعال، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية)) وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب))، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((أنا بريء من الصالقة والحالقة والشاقة))، كما أن ما يفعله الشيعة في الحسينيات والمآتم تحت مسمى الشعائر الحسينية مثل: اللطم والنياحة ولبس السواد، والتطبير وغيرها، والتي أفتى علماؤهم وعظماؤهم بجوازها، فإنها محرمة على لسان الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وعلى ألسنة أئمة أهل البيت الكرام في المصادر الشيعية القديمة والحديثة، واعترف بهذا التحريم شيوخ وأعلام المذهب الشيعي الاثنى عشري، فهذا محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي الملقب عند الشيعة بالصدوق، قال: من ألفاظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي لم يسبق إليها: النياحة من عمل الجاهلية. ورواه محمد باقر المجلسي بلفظ: النياحة عمل الجاهلية، فالنوح الذي استمرت عليه الشيعة جيلاً بعد جيل بعد جيل من عمل الجاهلية كما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومن هذه الروايات التي تنهى عما يقترفه الشيعة في الحسينيات ما قاله أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه -: وإياك والنواح على الميت ببلد يكون لك به سلطان، وقوله: ثلاث من أعمال الجاهلية لا يزال فيها الناس حتى تقوم الساعة: الاستسقاء بالنجوم، والطعن في الأنساب، والنياحة على الموتى، ومن الأدلة قول الإمام الباقر: أشد الجزع الصراخ بالويل والعويل ولطم الوجه والصدر وجز الشعر من النواصي، ومن أقام النواحة فقد ترك الصبر وأخذ في غير طريقه.


    وقد أنكر ما يحدث من ضرب الرؤوس بالخناجر والسيوف وإسالة الدماء الشيخ حسن مغنية: والواقع أن ضرب الرؤوس بالخناجر والسيوف وإسالة الدماء ليست من الإسلام في شيء، ولم يرد فيها نص صريح، ولكنها عاطفة نبيلة تجيش في نفوس المؤمنين لما أريق من الدماء الزكية على مذابح فاجعة كربلاء، ولا شك إن هذه الأمور من المنكرات والبدع الشنيعة.


    إن الإسلام علمنا آداب المصائب ومقتل الحسين - رضي الله عنه - مصيبة عظيمة، فمن آداب الإسلام في المصائب.


    1 - الصبر عليها: وهذا أعظم آدابها، أن يصبر المؤمن على المصيبة التي تنزل به، ومن هذا الصبر حبس القلب عن التسخط، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عمَّا يغضب الله - تعالى -من لطم الخدود، وشق الجيوب وخمش الوجوه، ونتف الشعر والدعاء بدعوة الجاهلية، وينبغي أن يكون هذا الصبر عند سماع الإنسان خبر المصيبة لأول مرة وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما الصبر عند الصدمة الأولى)).


    2 - احتساب المصيبة والصبر عليها: فينبغي أن يلتمس الأجر من الله - تعالى -في هذا الصبر، فيصبر ابتغاء موعود الله من الأجر والثواب ويصبر؛ لأن الله أمره بالصبر، فقال - عز وجل -: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (لقمان: 17)، ويتذكر إن فقد عزيزاً لديه، قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يقول الله - تعالى -: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيَّه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة))، وصفيُّه: أي حبيبه من ولد أو والد أو نحوه، وهكذا فإن الله - تعالى - وعد بالأجر العظيم على الصبر على المصائب، ولكن بشرط أن يكون الصبر ابتغاء وجه الله - تعالى -، كما قال - عز وجل - (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) (الرعد: 22)، فينبغي أن يكون الصبر لله - تعالى -، لا صبر المغلوب، بل صبر الراضي بقضاء الله، المسلِّم به.


    3 - الاسترجاع ودعاء المصيبة: فيقول المرء عند نزول المصيبة: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي، وأخلف لي خيراً منها. فقد قال الله - عز وجل -: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة: 155 - 157). وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون. اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها إلا أخلف الله له خيراً منها))، قالت أم سلمة: فلما مات أبو سلمة قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة؟ أول بيت هاجر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثم إني قلتها، فأخلف الله لي رسول الله.


    ويقول كذلك: الله ربي لا شريك له؛ فإن ذلك يكشف عنه المصائب والبلاء بإذن الله، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((من أصابه هم أو غم، أو سقم، أو شدة فقال: الله ربي لا شريك له، كشف ذلك عنه))، ويدعو كذلك بدعاء المكروب الذي ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: ((دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت))، ويقول كذلك كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم – يقول، فإنه - صلى الله عليه وسلم -: كان إذا كربه أمر قال: ((يا حي يا قيوم، برحمتك استغيث)).


    4 - اجتناب كل ما يغضب الله: وذلك من جنس الجهر بالسوء من القول، واللطم، وشق الجيوب، وحلق الشعور، والنياحة والشكوى إلى الناس والدعاء بالموت، والويل والثبور، وغير ذلك، فهذا كله يغضب الله - تعالى -، وينافي الصبر على المصائب والرضا بها.


    5 - تهوين المصيبة على النفس بتذكرة وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن وفاته وانقطاع وحي السماء من أعظم المصائب التي نزلت بالأمة، وبكل مسلم، وإذا تذكر المصاب بمصيبةٍ ما تلك المصيبة العظيمة بوفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، هوَّن ذلك عليه مصيبته التي نزلت به، فإن المصيبة العظيمة لا تهون إلا بالنظر إلى ما هو أعظم منها، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصيبته بي؛ فإنها من أعظم المصائب)).


    6 - مشاهدة النعمة في المصيبة: فمن أدب المسلم مع المصيبة أن يشاهد فيها نعمة الله - تعالى -، ولئن كان قتل الحسين - رضي الله عنه - عظيماً وشرًّا كبيراً، فإنه بالنسبة له خير وإكرام، يقول ابن تيمية - رحمه الله -: فلما قتل الحسين بن علي - رضي الله عنهما - يوم عاشوراء قتلته الطائفة الظالمة الباغية وأكرم الله - تعالى - الحسين بالشهادة كما أكرم بها من أكرم من أهل بيته -أكرم بها حمزة وجعفراً وأباه علياً وغيرهم-، وكانت شهادته مما رفع الله بها منزلته وأعلى درجته، فإنه هو وأخوه الحسن سيدا شباب أهل الجنة، والمنازل العالية لا تنال إلا بالبلاء، كما قال - صلى الله عليه وسلم - لما سئل: أي الناس أشد بلاء؟ فقال: ((الأنبياء ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة خُفف عنه، ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة)). فكان الحسن والحسين قد سبق لهما من الله - تعالى - ما سبق من المنزلة العالية، ولم يكن حصل لهما من البلاء ما حصل لسلفهما الطيب، فإنهما وُلِدا في عز الإسلام، وتربيا في عز وكرامة، والمسلمون يعظمونهما، ويكرمونهما، ومات النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يستكملا سن التمييز، فكانت نعمة الله عليهما أن ابتلاهما بما يُلحقهما بأهل بيتهما، كما ابتلى من كان أفضل منهما، فإن علي بن أبي طالب أفضل منهما، وقد قُتل شهيداً.


    7 - تذكر القضاء السابق: فإن المسلم متى ما أيقن أن هذه المصائب مكتوبة، ومقدرة، ومتى ما استحضر في ذهنه أن كل ما قدره الله فهو لا بد كائن واقع لا محيد عنه، وأن لله - تعالى -حكمة في تقدير هذه المصائب، كلما تذكر هذه الأمور هانت عليه المصائب، قال - تعالى -: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (الحديد: 22 - 23).
    ..... يتبع......
    SeIfElLaH
    SeIfElLaH
    مجلس المدراء
    مجلس المدراء


    الأوسمة : حقائق غائبة حول استشهاد الحسين - رضي الله عنه - وأحداث كربلاء 0ea39110
    عدد المساهمات : 4497
    نقاط : 6387
    تاريخ التسجيل : 22/03/2010
    العمر : 47

    حقائق غائبة حول استشهاد الحسين - رضي الله عنه - وأحداث كربلاء Empty رد: حقائق غائبة حول استشهاد الحسين - رضي الله عنه - وأحداث كربلاء

    مُساهمة من طرف SeIfElLaH الجمعة أكتوبر 21, 2016 2:04 pm

    حقائق غائبة حول استشهاد الحسين - رضي الله عنه - وأحداث كربلاء
    (الحلقة 6) خروج الحسين بن علي رضي الله عنهما
    الكاتب: الدكتور علي محمد الصلابي


    حقائق غائبة حول استشهاد الحسين - رضي الله عنه - وأحداث كربلاء Do


    8 - رأي ابن تيمية وابن كثير في ما يحدثه الشيعة يوم عاشوراء:

    أ - قال ابن تيمية:
    وصار الشيطان بسبب قتل الحسين - رضي الله عنه - يحدث للناس بدعتين: بدعة الحزن والنوح يوم عاشوراء من اللطم والصراخ والبكاء والعطش وإنشاد المراثي وما يفضي إلى ذلك من سب السلف الصالح، ولعنهم وإدخال من لا ذنب له مع ذوي الذنوب حتى يسب السابقون الأولون، وتقرأ أخبار مصرعه التي كثير منها كذب، وكان قصد من سن ذلك فتح باب الفتنة والفرقة بين الأمة، فإن هذا ليس واجباً ولا مستحباً باتفاق المسلمين بل إحداث الجزع والنياحة للمصائب القديمة من أعظم ما حرم الله ورسوله.



    والذي أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم في المصيبة إذا كانت جديدة إنما هو الصبر والاحتساب والاسترجاع، وإذا كان الله قد أمر بالصبر والاحتساب عند حدثان العهد بالمصيبة، فكيف مع طول الزمان؟ فكان ما زينه الشيطان لأهل الضلال والغي من اتخاذ يوم عاشور مأتماً، وما يصنعون فيه من الندب والنياحة، وإنشاد قصائد الحزن ورواية الأخبار التي فيها كذب كثير، والصدق فيها ليس فيه إلا تجديد الحزن والتعصب، وإثارة الشحناء والحرب وإلقاء الفتن بين أهل الإسلام، والتوسل بذلك إلى سب السابقين الأولين، وكثرة الكذب والفتن في الدنيا.


    ب - وأما ابن كثير فيقول: فكل مسلم ينبغي له أن يحزنه هذا الذي وقع من قتله رضي الله عنه، فإنه من سادات المسلمين وعُلماء الصحابة، وابن بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي هي أفضل بناته، وقد كان عابداً وشجاعاً وسخياً، ولكن لا يحسن ما يفعله الشيعة من إظهار الجزع والحزن الذي لعل أكثره تصنع ورياء، وقد كان أبوه أفضل منه، وهم لا يتخذون مقتله مأتماً كيوم مقتل الحسين، فإن أباه قتل يوم الجمعة وهو خارج إلى صلاة الفجر في السابع عشر من رمضان سنة أربعين، وكذلك عثمان، كان أفضل من علي عند أهل السنة والجماعة وقد قُتل وهو محصور في داره، في أيام التشريق من شهر ذي الحجة سنة ست وثلاثين، وقد ذبح من الوريد إلى الوريد، ولم يتخذ الناس يوم مقتله مأتماً، وكذلك عمر بن الخطاب، وهو أفضل من عثمان وعلي، قُتل وهو قائم يُصلي في المحراب صلاة الفجر، وهو يقرأ القرآن، ولم يتخذ الناس يوم قتله مأتماً، وكذلك الصديق كان أفضل منه، ولم يتخذ الناس يوم وفاته مأتماً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم في الدنيا والآخرة، وقد قبضه الله إليه كما مات الأنبياء قبله ولم يتخذ أحد يوم موته مأتماً يفعلون فيه ما يفعله هؤلاء الجهلة من الرافضة يوم مصرع الحسين، ولا ذكر أحد يوم موتهم وقتلهم شيئا مما ادَّعاه هؤلاء يوم مقتل الحسين من الأمور المتقدمة مثل كسوف الشمس والحمرة التي تطلع في السماء، وغير ذلك، وأحسن ما يقال عند ذكر هذه المصائب وأمثالها ما رواه الحسين بن علي عن جدِّه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ما من مسلم يصاب بمصيبة فيتذكرها -وإن تقادم عهدها-، فيُحدثُ بها استرجاعاً إلا أعطاه الله من الأجر مثل يوم أصيب بها)).


    يقول ابن تيمية تعليقاً على هذا الحديث: هذا حديث رواه عن الحسين ابنته فاطمة التي شهدت مصرعه وقد علم أن المصيبة بالحسين تذكر مع تقادم العهد، فكان من محاسن الإسلام أن بلَّغ هو هذه السنَّة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أنه كلما ذكرت هذه المصيبة يسترجع لها، فيكون للإنسان من الأجر يوم أصيب بها المسلمون، وأما من فعل مع تقادم العهد بها ما نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - عند حدثان العهد بالمصيبة فعقوبته أشد مثل لطم الخدود وشق الجيوب، والدعاء بدعوى الجاهلية.


    9 - من يتخذ عاشوراء عيداً:



    هم من النواصب، والنواصب إحدى طوائف أهل البدع التي أصيبت في معتقدها بعدم التوفيق للاعتقاد الصحيح في الصحابة الكرام - رضي الله عنهم -، فقد زين لهم الشيطان عدم محبة أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - وحملهم على التدين ببغضه وعداوته والقول فيه بما هو بريء منه، كما تعدى بغضهم إلى غيره من أهل البيت كابنه الحسين بن علي - رضي الله عنهما - وغيره فالنصب هو بغض علي - رضي الله عنه - والنيل منه والانحراف عنه، وسمي من كانت هذه صفته ناصبياً، فالنصب كالرفض؛ لأن الرفض هو بغض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والنيل منهم بالشتم والسب وكلاهما ضلال وابتعاد عن منهج الله، في وجوب حب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعرفة سابقتهم في الإسلام وجهادهم بأنفسهم وأموالهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا كانت الشيعة اتخذت يوم عاشوراء مأتماً وحزناً، اتخذته طائفة أخرى عيداً وموسماً للفرح والسرور وهم إما من النواصب المتعصبين على الحسين وأهل بيته - رضي الله عنه -، وإما من الجهال الذين قابلوا الفاسد بالفاسد والكذب بالكذب والشر بالشر والبدعة بالبدعة، فوضعوا الآثار في شعائر الفرح والسرور يوم عاشوراء كالاكتحال والاختضاب، وتوسيع النفقات على العيال وطبخ الأطعمة الخارجة عن العادة ونحو ذلك مما يفعل في الأعياد والمواسم، فصار هؤلاء يتخذون يوم عاشوراء موسماً كمواسم الأعياد والأفراح مقابلة لأولئك، وهي بدعة ثانية ومما ورد في ذلك من أحاديث موضوعة ومكذوبة ما يلي:

    أ - حديث: من وسع على عياله يوم عاشوراء وسع الله عليه سنته.
    ب - ابتداع صلاة مخصوصة في يومه وليلته: روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من صلى لله يوم عاشوراء ما بين الظهر والعصر أربعين ركعة يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب مرة، وآية الكرسي عشر مرات، وقل هو الله أحد إحدى عشرة مرة، والمعوذتين خمس مرات، فإذا سلم استغفر سبعين مرة أعطاه الله في الفردوس قبة بيضاء. وغير ذلك من البدع التي أحدثت في ذلك اليوم والتي لا أصل لها في دين الله - عز وجل -.
    وقد سئل ابن تيمية عما يفعله الناس في عاشوراء من الكحل والاغتسال والحناء والمصافحة وطبخ الحبوب وإظهار السرور وعزوا ذلك إلى الشارع، فهل ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك حديث صحيح أم لا؟ وإذا لم يرد حديث صحيح في شيء من ذلك فهل يكون فعل ذلك بدعة أم لا؟
    فأجاب: الحمد لله رب العالمين، لم يرد في شيء من ذلك حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين ولا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ولا روى أهل الكتب المعتمدة في ذلك شيئاً لا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن الصحابة ولا عن التابعين لا صحيحاً ولا ضعيفاً. ولا في كتب الصحيح ولا في السنن ولا في المسانيد، ولا يعرف شيء من هذه الأحاديث على عهد القرون الفاضلة، وإنما حصلت هذه البدع في يوم عاشوراء؛ لأن الكوفة كان فيها طائفتان: طائفة رافضة يظهرون موالاة أهل البيت، وهم في الباطن إما ملاحدة زنادقة، وإما جهال وأصحاب هوى، وطائفة ناصبة تبغض علياً وأصحابه لما جرى من القتال في الفتنة ما جرى، فوضعت الآثار في الاحتفال بعاشوراء لمَّا ظهرت العصبية بين الناصبة والرافضة، فإن هؤلاء اتخذوا يوم عاشوراء مأتماً، فوضع أولئك آثار تقتضي التوسع فيه واتخاذه عيداً وكلاهما باطل، فهؤلاء فيهم بدع وضلال وأولئك فيهم بدع وضلال، فمن جعل يوم عاشوراء مأتماً وحزناً ونياحة، أو جعله يوم عيد وفرح وسرور فقد ابتدع في الدين وخالف سنة سيد المرسلين.



    10 - هدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - في يوم عاشوراء:
    يوم عاشوراء من الأيام الفاضلة التي حث النبي - صلى الله عليه وسلم - على صيامها، فجاء في الحديث الصحيح عن أبي قتادة - رضي الله عنه - أنه قال: ((ثلاث من كل شهر ورمضان إلى رمضان فهذا الدهر كله، وصيام عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والتي بعده، وصيام عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله))، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: ما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يتحرى صيام يوم فضله على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء، وهذا الشهر، يعني شهر رمضان، فالسنة إذا في اليوم هذا الصيام فحسب وقد صامه - صلى الله عليه وسلم - وأخبر بفضل صيامه كما في الحديث السابق وأمر بقيامه، فقد جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة.



    أ - فعن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن أهل الجاهلية كانوا يصومون عاشوراء، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صامه والمسلمون قبل أن يفترض رمضان، فلما افترض رمضان. قال: صلى الله عليه وسلم: ((إن عاشوراء من أيام الله، فمن شاء صامه ومن شاء تركه)).


    ب - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: قال قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: ((ما هذا؟)) قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى، قال: ((فأنا أحق بموسى منكم)) فصامه وأمر بصيامه. وعنه أيضاً قال: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بصوم يوم عاشوراء العاشر.


    جـ - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: حين صام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله يوم تعظمه اليهود والنصارى؟! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا يوم التاسع)). قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي رواية: ((لئن بقيت إلى قابل لأصومنَّ التاسع))، وعنه أيضاً قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((صوموا يوم عاشوراء وخالفوا فيه اليهود، صوموا قبله يوماً وبعده يوماً)).


    ولقد ذكر العلماء أن صوم يوم عاشوراء على ثلاث مراتب:


    أ - صوم التاسع والعاشر والحادي عشر لحديث: ((صوموا قبله يوماً وبعده يوماً)).
    ب - صوم التاسع والعاشر لحديث: ((إذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا التاسع)).
    جـ - إفراده بالصوم أي صوم يوم عاشوراء وحده، للأحاديث الدالة على تأكيد صومه.
    فهذا هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يوم عاشوراء ومن هنا تتجلى وسطية أهل السنة والجماعة فلا إفراط ولا تفريط، إنما هو تمسك بهدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - وامتثال لأمره رجاء لثواب الله - تعالى -.



    ثانياً: التحقيق في مكان رأس الحسين - رضي الله عنه -:

    إن سبب الاختلاف في موضع رأس الحسين - رضي الله عنه - عند عامة الناس إنما هو ناتج عن تلك المشاهد المنتشرة في ديار المسلمين التي أقيمت في عصور التخلف الفكري والعقدي، وكلها تدعي وجود رأس الحسين، ثم إن الجهل بموضع رأس الحسين جعل كل طائفة تنتصر لرأيها في إدعاء وجود الرأس عندها، وإذا أردنا التحقيق في مكان الرأس فإنه يلزمنا تتبع وجود الرأس منذ انتهاء معركة كربلاء.



    لقد ثبت أن رأس الحسين حمل إلى ابن زياد، فجعل الرأس في طست، وأخذ يضربه بقضيب كان في يده، فقام إليه أنس بن مالك - رضي الله عنه - وقال: لقد كان أشبههم برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم بعد ذلك تختلف الروايات والآراء اختلافاً بيناً بشأن رأس الحسين - رضي الله عنه - ولكن بعد دراسة الروايات التي ذكرت أن ابن زياد أرسل الرأس إلى يزيد بن معاوية وجدت أن الروايات على النحو التالي:


    هناك روايات ذكرت أن الرأس أرسل إلى يزيد بن معاوية، وأخذ يزيد ينكث بالقضيب في فم الحسين، الأمر الذي حدا بأبي برزة الأسلمي - رضي الله عنه - على أن ينكر على يزيد فعلته، ولكن هذه الرواية التي ذكرت وصول الرأس وتعامل يزيد معه بهذا النحو ضعيفة، وقد استدل ابن تيمية على ضعف هذه الرواية: بأن الذين حضروا نكثه بالقضيب من الصحابة لم يكونوا بالشام، وإنما كانوا بالعراق، ومما يدل على فساد متن هذه الرواية هو أن متنها مخالف لتلك الروايات الصحيحة، والتي بينت حسن معاملة يزيد لآل الحسين، وتألمه وبكاءه على قتل الحسين - رضي الله عنه -، وقد قال ابن تيمية: ورأس الحسين إنما حمل إلى ابن زياد، وهو الذي ضربه بالقضيب كما ثبت في الصحيح، وأما ما حمله إلى عند يزيد فباطل، وإسناده منقطع.


    وقد ذهب ابن كثير إلى ذهاب الرأس إلى يزيد، فقد قال: وقد اختلف العلماء في رأس الحسين هل سيّره ابن زياد إلى الشام أم لا؟ على قولين: الأظهر منهما أنه سيَّره إليه، فقد ورد في ذلك آثار كثيرة والله أعلم، وهو ما ذهب إليه الذهبي.


    وقد ذكر بأن رأس الحسين مقبور في ست مدن وهي:

    1 - دمشق:
    ذكر البيهقي في المحاسن والمساوئ: أن يزيد أمر بغسل الرأس وجعله في حرير وضرب عليه خيمة، ووكل به خمسين رجلاً، وساق ابن عساكر بإسناده عن ريا حاضنة يزيد بن معاوية أن الرأس مكث في خزائن السلاح حتى ولي سليمان، فبعث به، فجيء به فبقي عظماً فطيبه وكفَّنه، فلما وصلت المسودَّة، سألوا عن موضع الرأس ونبشوه، فالله أعلم ما صنع به.



    وراوية القصة "ريا" هذه ذكرها ابن عساكر ولم يذكر فيها جرحاً، ولا تعديلاً وتكون بذلك مجهولة، وبذلك تكون رواية ساقطة لا يعتمد عليها بأي حال من الأحوال، وقد أورد الذهبي بإسناده عن أبي كريب قال: كنت فيمن توثب على الوليد بن يزيد بدمشق، فأخذت سفطاً وقلت فيه غنائي، فركبت فرسي، وخرجت من باب توما، قال: ففتحته، فإذا فيه رأس مكتوب عليها، هذا رأس الحسين بن علي، فحفرت فيه بسيفي فدفنته؟. وهي رواية ضعيفة جداً. ومن ناحية أخرى ما هي فائدة يزيد في احتفاظه برأس الحسين وجعله في خزائن سلاحه.


    2 - كربلاء: لم يقل أحد بأن الرأس في كربلاء إلا الشيعة الإمامية، فإنهم يقولون: بأن الرأس أعيد إلى كربلاء بعد أربعين يوماً من القتل، ودفن بجانب جسد الحسين - رضي الله عنه - وهو يوم معروف عندهم يسمون فيه زيارة الأربعين، ويكفي أن هذا القول إنما تفرد به الشيعة الإمامية، وهم ليس عندهم في ذلك أي دليل، إنما أقاويل عارية من الحجة والبرهان وقد أنكر أبو نعيم الفضل بن دكين على من زعم أنه يعرف قبر الحسين - رضي الله عنه -، وقد ذكر ابن جرير وغيره أن موضع قتله عفي أثره حتى لم يطلع أحد على تعيينه.


    3 - الرقة: لقد انفرد سبط ابن الجوزي بإيراد خبر يذكر أن الرأس قبر بالرقة وقال: إن الرأس بمسجد الرقة على الفرات، وأنه جيء به بين يدي يزيد بن معاوية قال: لأبعثن إلى آل أبي معيط عن رأس عثمان -وكانوا بالرقة-، فدفنوه في بعض دورهم، ثم دخلت تلك الدار بالمسجد الجامع، وهو إلى جانب سور هناك. وهذا خبر مستبعد فالرواية ليست مسندة، ثم إن الخبر فيه نكارة واضحة؛ لمخالفته النصوص الصحيحة، والتي ثبت فيها حسن معاملة يزيد لأسرة الحسين وتحسّره وندمه على قتله، ثم إن سبط ابن الجوزي هذا قال عنه الذهبي: ورأيت له مصنفاً يدل على تشيعه.


    4 - عسقلان: لقد أنكر جمع من المحققين الخبر القائل بأن رأس الحسين دفن في عسقلان، قال القرطبي: وما ذكر أنه في عسقلان فشيء باطل، وأنكر ابن تيمية وجود الرأس بعسقلان، وتابعه على ذلك ابن كثير.


    5 - القاهرة: يبدو أن اللعبة التي قام بها العبيديون "الفاطميون" قد انطلت على الكثير من الناس، فبعد أن عزم الصليبيون الاستيلاء على عسقلان سنة تسع وأربعين وخمسمائة خرج الوزير الفاطمي صالح طلائع بن زريك خرج هو وعسكره حفاة إلى الصالحية، فتلقى الرأس ووضعه في كيس من الحرير الأخضر على كرسي من الأبنوس، وفرش تحته المسك والعنبر والطيب، ودفن في المشهد الحسيني قريباً من خان الخليلي في القبر المعروف، وكان ذلك في يوم الأحد الثامن من جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، وقد ذكر الفارقي أن الخليفة الفاطمي نفسه قد خرج وحمل الرأس، وذكر الشبلنجي أن الوزير الصالح طلائع افتدى الرأس من الأفرنج ونجح في ذلك بعد تغلبهم على عسقلان وافتداه بمال جزيل، ولقد حاول بعض المؤرخين أن يؤكدوا على أن الرأس قد نقل فعلاً من عسقلان إلى مصر، وأن المشهد الحسيني في مصر إنما هو حقيقة مبني على رأس الحسين - رضي الله عنه - وقد أثبت أحد المتأخرين وهو حسين محمد يوسف بأن الرأس الموجود في المشهد الحسيني هو حقيقة رأس الحسين، وخطَّأ من يقول بغير ذلك وكان الاستدلال الذي جاء به: هي تلك المنامات والكشوفات التي تجلت لبعض الصوفية، التي جاء في تلك المنامات أن الرأس هو في الحقيقة رأس الحسين، ثم أورد تأييداً لهذا القول، باستحداث قاعدة قال فيها: إن الرأس يوجد في القاهرة؛ وذلك بسبب الشك الذي تعارض مع اليقين، واليقين هم أصحاب الكشف.


    وهذا الاستدلال لا يخضع إلى عقل أو منطق أو حجة علمية، أو برهان علمي فضلاً عن قواعد المنهج الإسلامي في الاستدلال.


    إن الاستدلال على وجود رأس الحسين في القاهرة كان مبنياً على استناده بأن الرأس كان في عسقلان، وقد أثبتنا قبل قليل بطلان وجود الرأس بعسقلان، وبالتالي يكون الرأس الذي حمل إلى القاهرة، والمشهد المعروف اليوم والمقام عليه والمسمى بالمشهد الحسيني هو كذب، وليس له علاقة برأس الحسين رضي الله عنه، وإذا ثبت أن الرأس الذي كان مدفوناً بعسقلان هو ليس في الحقيقة برأس الحسين، فإذًا متى ادُّعي أن رأس الحسين بعسقلان؟ وإلى من يعود ذلك الرأس؟ يقول النويري: إن رجلاً رأى في منامه -وهو بعسقلان- أن رأس الحسين في مكان بها، عُيِّن له في منامه، فنبش ذلك الموضع، -وذلك في أيام المستنصر بالله العبيدي صاحب مصر، ووزارة بدر الجمالي-، فابتنى له بدر الجمالي مشهداً بعسقلان، وقام الأفضل بعد ذلك بإخراجه، وعطَّره، ووضعه في مكان آخر من عسقلان وابتنى عليه مشهداً كبيراً، ولعلك تعجب من إسراع العبيديين لإقامة المشهد على هذا الرأس، لمجرد رؤية رجل فقط؟، ولكن إذا عرفت تاريخ العبيديين فإن الأمر لا يستغرب لهذا الحد، فإحساسهم بأن الناس لا يصدقون نسبتهم إلى الحسين، جعلهم يلجؤون إلى تغطية هذا الجانب، باستحداث وجود رأس الحسين بعسقلان، ويظهروا من الاهتمام به وبناء المشهد عليه والإنفاق على ترميمه وتحسينه من الأموال الشيء الكثير؛ حتى يصدقهم الناس، ويقولون: إنه لو لم يكن لهم نسب فيه لما اهتموا به إلى هذا الحد!، ثم إن هناك بعداً سياسياً آخر باستحداث وادعاء وجود رأس الحسين بعسقلان دون غيرها من المناطق التي تقع تحت سيطرتهم، وهو محاولة مجابهة الدويلات السنية التي قامت في بلاد الشام، ومن المعروف أن حكومة المنتصر بالله العبيدي قد صادفت قيام دولة السلاجقة السنية التي تمكن قائدها طغرلبك السلجوقي من دخول بغداد سنة سبع وأربعين وأربعمائة.


    ومما يدل على أن استحداث وجود رأس الحسين بعسقلان ونقله إلى مصر ما هو إلا خطة عبيدية، هو أنه لم يرد بأن رأس الحسين وجد في عسقلان في أي كتاب قبل ولاية المنتصر الفاطمي، وهذا مما يعزز كذب العبيديين وتحقيق أغراض خاصة لهم بذلك، وقد ذكر ابن تيمية أن هذا الرأس المزعوم بأنه رأس الحسين ليس في الأصل سوى رأس راهب.


    وقد نقل ابن دحية في كتابه "العلم المشهور" الإجماع على كذب وجود الرأس بعسقلان أو بمصر، ونقل الإجماع أيضاً على كذب المشهد الحسيني الموجود في القاهرة، وذكر أنه من وضع العبيديين، ولأنه لأغراض فاسدة وضعوا ذلك المشهد، وقد أزال الله تلك الدولة وعاقبها بنقيض قصدها.


    وقد أنكر وجود الرأس في مصر كل من: ابن دقيق العيد، وأبو محمد ابن خلف الدمياطي، وأبو محمد ابن القسطلاني، وأبو عبد الله القرطبي وغيرهم.


    وقال ابن كثير: وادَّعت الطائفة المسماة بالفاطميين الذين ملكوا مصر قبل سنة أربعمائة إلى سنة ستين وخمسمائة أن رأس الحسين وصل إلى الديار المصرية، ودفنوه بها، وبنوا عليه المشهد المشهور بمصر، الذي يقال له: تاج الحسين، بعد سنة خمسمائة، وقد نص غير واحد من أئمة أهل العلم على أنه لا أصل لذلك وإنما أرادوا أن يروجوا بذلك بطلان ما ادعوه من النسب الشريف، وهم في ذلك كَذَبَة خَوَنة، وقد نص على ذلك القاضي الباقلاني وغير واحد من أئمة العلماء في دولتهم، قلت: والناس أكثرهم يروّج عليهم مثل هذا، فإنهم جاؤوا برأس فوضعوه في مكان هذا المسجد المذكور، وقالوا هذا رأس الحسين، فراج ذلك عليهم واعتقدوا ذلك والله أعلم.


    6 - المدينة النبوية: إن المدن التي مرّ ذكرها لم يثبت لدينا أدنى دليل على وجود الرأس بها، ولم


    يبق أمامنا سوى المدينة، فقد ذكر ابن سعد بإسناد جمعي: أن يزيد بعث بالرأس إلى عمرو بن سعيد والي المدينة، فكفنه ودفنه بالبقيع إلى حيث قبر أمه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال ابن تيمية: ثم إن دفنه بالبقيع: هو الذي تشهد له عادة القوم فإنهم كانوا في الفتن، إذا قتل الرجل منهم، - لم يكن منهم - سلموا رأسه وبدنه إلى أهله كما فعل الحجاج بابن الزبير لما قتله وصلبه، ثم سلموه إلى أهله، وقد علم أن سعي الحجاج في قتل ابن الزبير، وأن ما كان بينهما من الحروب أعظم بكثير مما كان بين الحسين وبين خصومه.


    كما أننا لا نجد انتقاداً واحداً انتقد فيه يزيد سواءً من آل البيت أو من الصحابة أو من التابعين فيما يتعلق بتعامله مع الرأس، فظني أن يزيد لو أنه تعامل مع الرأس كما تزعم بعض الروايات من الطوفان به بين المدن والتشهير برأسه، لتصرف الصحابة والتابعين تصرفاً آخر على إثر هذا الفعل، ولما رفض كبارهم الخروج عليه يوم الحرة، ولرأيناهم ينضمون مع ابن الزبير المعارض الرئيسي ليزيد، ويؤيد هذا الرأي قول الحافظ أبو يعلى الهمداني: إن الرأس قُبر عند أمه فاطمة - رضي الله عنهما - وهو أصح ما قيل في ذلك، وهو ما ذهب إليه علماء النسب مثل الزبير بن بكار ومحمد بن الحسن المخزومي، وذكر ابن أبي المعالي أسعد بن عمار في كتابه "الفاصل بين الصدق والمَيْن في مقر رأس الحسين" أن جمعاً من العلماء الثقات كابن أبي الدنيا وأبي المؤيد الخوارزمي، وأبي الفرج ابن الجوزي قد أكدوا أن الرأس مقبور في البقيع بالمدينة، وتابعهم على ذلك القرطبي، وقال الزرقاني: قال ابن دحية ولا يصح غيره، وابن تيمية يميل إلى أن الرأس قد بعث به يزيد إلى واليه على المدينة عمر بن سعيد وطلب منه أن يقبره بجانب أمه فاطمة - رضي الله عنها - والذي جعل ابن تيمية يرى ذلك هو: أن الذي ذكر أن الرأس نقل إلى المدينة هم من العلماء والمؤرخين الذين يعتمد عليهم مثل الزبير بن بكار، صاحب كتاب الأنساب، ومحمد بن سعد كاتب الواقدي صاحب الطبقات ونحوهما من المعروفين بالعلم والثقة والاطلاع، وهم أعلم بهذا الباب، وأصدق فيما ينقلونه من المجاهيل والكذابين، وبعض أهل التاريخ، الذين لا يوثق بعلمهم، وقد يكون الرجل صادقاً، ولكن لا خبرة له بالأسانيد، حتى يميز بين المقبول والمردود أو يكون سيء الحفظ أو متهماً بالكذب أو بالتزوير في الرواية، كحال كثير من الأخباريين والمؤرخين.


    وقال أبو عمر عبد الله بن محمد الحمادي: وهكذا اختلفوا في موقع رأس الحسين على ثلاثة أماكن، وكل واحد منهم يريد أن يكون الرأس عنده؛ حتى تكثر الزيارات، فيكثر رمي الأموال على القبر؛ ليتقاسمه السدنة، وحرَّاس القبور، وبهذا الاختلاف جعلوا للحسين ثلاثة رؤوس، ومعلوم يقيناً أنه كان - رضي الله عنه - له رأس واحد، ومن خلال البحث، فإنه يتضح أن جسد الحسين - رضي الله عنه – بكربلاء، وأما رأسه بالبقيع في المدينة، والله أعلم.
    ..... يتبع ، الحلقة ما قبل الأخيرة .........
    SeIfElLaH
    SeIfElLaH
    مجلس المدراء
    مجلس المدراء


    الأوسمة : حقائق غائبة حول استشهاد الحسين - رضي الله عنه - وأحداث كربلاء 0ea39110
    عدد المساهمات : 4497
    نقاط : 6387
    تاريخ التسجيل : 22/03/2010
    العمر : 47

    حقائق غائبة حول استشهاد الحسين - رضي الله عنه - وأحداث كربلاء Empty رد: حقائق غائبة حول استشهاد الحسين - رضي الله عنه - وأحداث كربلاء

    مُساهمة من طرف SeIfElLaH الإثنين أكتوبر 24, 2016 2:39 pm

    حقائق غائبة حول استشهاد الحسين - رضي الله عنه - وأحداث كربلاء
    (الحلقة 7 والأخيرة) خروج الحسين بن علي رضي الله عنهما
    الكاتب: الدكتور علي محمد الصلابي


    حقائق غائبة حول استشهاد الحسين - رضي الله عنه - وأحداث كربلاء Do


    ثالثاً: تقديس أضرحة الأئمة وزيارة قبر الحسين - رضي الله عنه - عند الشيعة:


    بالغ الشيعة في تعظيم مراقد الأئمة ومنحوها من القداسة والشرف ما لم تحظ به الكعبة المشرفة والمدينة المنورة، فقد نسبوا زوراً وبهتاناً إلى علي بن الحسين أنه قال: اتخذ الله أرض كربلاء حرماً آمناً مباركاً قبل أن يخلق الله أرض الكعبة، ويتخذها حرماً بأربعة وعشرين ألف عام، وقدسها وبارك عليها، فما زالت قبل خلق الله الخلق مقدسة مباركة، ولا تزال كذلك حتى يجعلها الله أفضل أرض الجنة، وأفضل منزل ومسكن يسكن فيه أولياؤه في الجنة.
    كما نسبوا إلى جعفر الصادق -وهو بريء مما نسبوا إليه-: أن أرض الكعبة قالت: من مثلي وقد بُني بيت الله على ظهري يأتيني الناس من كل فج عميق، وجعلت حرم الله وأمنه، فأوحى الله إليها: أن كُفِّي وقرِّي، ما فَضُلُ ما فُضِّلتِ به فيما أعطيت أرض كربلاء إلا بمنزلة الإبرة غرست في البحر، فحملت من ماء البحر، ولولا تربة كربلاء ما فضلتك، ولولا ما تضمنته أرض كربلاء ما خلقتك، ولا خلقت البيت الذي به افتخرت، فقرِّي واستقرِّي وكوني ذنَباً متواضعاً ذليلاً مهيناً غير مستنكف ولا مستكبر لأرض كربلاء، وإلا سخت بك وهويت بك في نار جهنم.



    وهذه البقعة بالطبع لم تنل ما نالت إلا بكونها في معتقدهم مدفن الحسين - رضي الله عنه -: وقد جرت على ألسنة الشعراء وأقلام الكتاب من بعد الواقعة وإلى يومنا هذا المقارنة بينها وبين الكعبة، وتفننوا بمختلف أساليب النثر والنظم في إثبات فضلها وقداستها وشرفها واستطالة أرضها على جميع الأقطار بالفضل والشرف، وهذه الأرض المباركة لم تنل هذا الشرف العظيم في الإسلام إلا بالحسين - رضي الله عنه - كما نص عليه الحديث: وزادها في تواضعها وشكرها لله بالحسين (ع) وأصحابه، وبناء على غلوهم واعتقادهم في الأئمة - والتي قد مرَّ بيان معتقدهم في ذلك في كتابي عن أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه -،- ولأجل ربط الناس بأضرحتهم ومشاهدهم، وضعوا الفضائل الكبيرة والأجور الكثيرة لمن زار تلك المشاهد، ومع الكثرة الكاثرة من النصوص في هذا الجانب والتي تتفاوت فيها الأجور والمقارنة بين زيارة كربلاء والحج والعمرة لبيت الله الحرام، فإنني سأقتصر على نصين فقط؛ لاحتوائهما على معظم تلك النصوص وتصوير مدى الكذب والافتراء عند القوم واستخفافهم بعقول أتباعهم وجرأتهم على الله - عز وجل - فيما نسبوه إلى أبي عبد الله جعفر الصادق أنه قال: لو يعلم الناس ما في زيارة الحسين - عليه السلام - من الفضل لماتوا شوقاً وانقطعت أنفسهم عليه حسرات قلت: وما فيه؟ قال: من زاره تشوقاً إليه كتب الله له ألف حجة متقبلة، وألف عمرة مبرورة، وأجر ألف شهيد من شهداء بدر، وأجر ألف صائم، وثواب ألف صدقة مقبولة، وثواب ألف نسخة أريد بها وجه الله، ولم يزل محفوظاً سَنَتَه من كل آفة أهونها الشيطان، ووكِّل به ملك كريم يحفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وفوق رأسه وتحت قدمه، فإن مات من سنته حضرته ملائكة الرحمن يحضرون غسله وأكفانه والاستغفار له، ويشيعونه إلى قبره بالاستغفار، ويفسح له في قبره مد بصره، ويؤمنه الله من ضغطة القبر، ومن منكر ونكير يروعانه، ويفتح له باب إلى الجنة، ويعطى كتابه بيمينه، ويعطى له يوم القيامة نور يضيء لنوره ما بين المشرق والمغرب، وينادي منادٍ: هذا من زوار الحسين شوقاً إليه، فلا يبقى أحد يوم القيامة إلا تمنى يومئذ أنه كان من زوار الحسين - عليه السلام -.


    وقد سوَّغ هذه المبالغات أحد أئمتهم بذكر فضائلهم وما أعطوا من صفات فوق مستوى البشر فقال: إن هذا ليس بكثير على من جعله الله إماماً للمؤمنين، وله خلق السماوات والأرضين، وجعله صراطه وسبيله وعينه ودليله وبابه الذي يؤتى منه، وجعله المتصل بينه وبين عباده من رسل وأنبياء وحجج وأولياء.


    هذا مع أن مقابرهم - رضي الله عنهم - فيها –أيضاً- إنفاق أموال، ورجاء آمال وأشخاص وأبدان، وهجران أوطان، وتحمل مشاق، وتجديد ميثاق، وشهود شعائر، وحضور مشاعر.


    ومبالغة في تقديس تلك القبور جعلوا لها مناسك خاصة بها، وهذه المناسك ليست خاصة بقبر الحسين فقط، بل إنها عامة بجميع مشاهد أئمتهم، وقد قال آغا بزرك الطهراني -أحد شيوخ الشيعة- أن ما صنفه شيوخهم في المزار، ومناسكه قد بلغ ستين كتاباً، وإليك منسكاً من تلك المناسك التي يؤدونها عند المشاهد باختصار: قال الصادق - عليه السلام -: إذا أردت المسير إلى قبر الحسين - عليه السلام - فصُم يوم الأربعاء والخميس والجمعة، فإذا أردت الخروج فاجمع أهلك وولدك وادع بدعاء السفر، واغتسل قبل خروجك، وقل حين تغتسل كذا، وكذا، فإذا خرجت فقل كذا وكذا، ولا تدَّهن، ولا تكتحل، حتى تأتي الفرات، وأقِل من الكلام والمزاح، وأكثر من ذكر الله - تعالى -، وإياك والمزاح والخصومة، فإذا كنت راكباً أو ماشياً، فإذا خفت شيئاً فقل:...، فإذا أتيت الفرات فقل قبل أن تعبره:... ثم اعبر الفرات، ثم تفصيل إلى أن يقول واصنع هذه المناسك:... ثم ضع خدك على القبر -قبر علي بن الحسين- وقل:... ثم تدور من خلف الحسين - عليه السلام - إلى عند رأسه وصلِّ عند رأسه ركعتين... ثم تنكب على القبر وتقول:... ثم تخرج من السقيفة، وتقف بحذاء قبور الشهداء وتومئ إليهم أجمعين... إلى غير ذلك من تفاصيل لبعض ما يفعلون عند المشاهد من طواف بها واستقبال لها حال الصلاة، وغير ذلك آثرت تركها؛ اختصاراً، وانظر بعضها في أصول مذهب الشيعة، كما أن الشيعة تعتقد أن بناء الأضرحة والقباب على مراقد الأنبياء والأئمة والشخصيات الإسلامية من أفضل القربات لله - سبحانه وتعالى -، وإليك الرد على كل من:


    1 - قدسية كربلاء:
    لا يوجد نص في كتاب الله، ولا صح شيء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين أو علماء الأمة في خير القرون يدل على قدسية كربلاء، أو الفضائل المزعومة لها وغيرها كالنجف وما يسمى بالعتبات المقدسة، وأما الذي جاء في كتاب الله وسنة رسوله من قدسية وفضائل فهي المسجد الحرام، والمشاعر المقدسة داخل المسجد الحرام وخارجه، كالكعبة، ومقام إبراهيم، وبئر زمزم، والصفا والمروة، ومنى، ورحاب عرفات، ورحاب مزدلفة والمسجد النبوي وفضل الصلاة فيه، وفضل ما بين بيت الرسول ومنبره، وجواز شد الرحال إليه، وإلى المسجد الحرام والمسجد الأقصى، وفضائل المدينة، وفضائل مسجد قباء، ودعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالبركة للمدينة، ووجود البركة في صاع أهل المدينة والبقاء بها، وتحريم الرسول - صلى الله عليه وسلم - المدينة وتحريم صيدها وشجرها، وفضل وادي العقيق وبركته، وفضائل المسجد الأقصى وبركاته، وفضل الصلاة فيه، وجواز شد الرحال إليه، ووجود البركة حوله، وأنه ثاني مسجد وضع في الأرض بعد المسجد الحرام، والإسراء بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، وجاءت الآيات والأحاديث في فضل سائر المساجد وبيوت الله - عز وجل -، فبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كون المساجد بيوت الله في الأرض، وفضل السعي إلى المساجد وملازمتها وفضل بنائها.. إلخ، أما ما نسب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قدسية كربلاء وفضائلها فإنه لا يصح في ذلك، وهذا يجري حكمه على البلاد والمقابر والقبور والأضرحة مما يزعم الشيعة أو جهّال السنة.



    2 - هدي الإسلام في زيارة القبور:
    كما هو في سائر شرائع الإسلام أنها تكون في غاية من الاعتدال والسماحة، وصادرة عن حكمة بالغة تضمن لمن عمل بها على بصيرة الفوزَ والنجاحَ، والسعادة، دون أن يتعرض بسببها لأي نوع من أنواع الضلال والشقاء في الدنيا والآخرة، كذلك كانت شرعية زيارة القبور في الإسلام حينما كان الناس حدثاء عهد بالكفر والشرك وعبادة غير الله نهاهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الزيارة؛ حتى يكون هناك برزخ فاصل بين العهدين عهد الشرك وعهد التوحيد، وعهد الجاهلية، وعهد الإسلام؛ حتى يذهب ما في النفوس من الالتفات إلى الأرض وما عليها ممَّا يقدِّسه الناس، وعهد السموِّ الروحي والصفاء القلبي والذهني الذي لا يبقى معه التفات إلى غير الله - عز وجل -، وفعلاًُ حينما حصل ذلك، خاطب النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته قائلاً: ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها؛ فإنها تذكر الموت)). وفي رواية: ((فإن في زيارتها تذكرة))، وفي أخرى: ((فإنها تذكر الآخرة))، وفي ثالثة: ((فزوروها، ولتزدكم زيارتها خيراً))، وفي رواية رابعة: ((فإن فيها عبرة))، ومن حديث أنس - رضي الله عنه -: ((ثم بدا لي أنها تُرقّ القلب وتُدمع العين وتُذكر الموت، والدار الآخرة، وتزهِّد في الدنيا))، وينبغي أن يحرص الزائر أن تزيده زيارته للمقابر خيراً، وهذا كله فيما يخص الزائر، وأما الأموات فإن لهم فيها نصيباً –أيضاً- حيث كان - صلى الله عليه وسلم - إذا زارهم دعا لهم كما ورد عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كلما كان ليلتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: ((السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين، وأتاكم ما توعدون غداً مؤجَّلون، وإنا - إن شاء الله - بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد))، ففي هذه الأحاديث بيان أن من مقاصد الزيارة وعللها السلامُ على الأموات والدعاء والاستغفار لهم، قال الإمام الصنعاني -في سبل السلام بعد ما شرح أحاديث الإذن بالزيارة-: والكل دالٌّ على مشروعية زيارة القبور وبيان الحكمة فيها وأنها للاعتبار... فإذا خلت من هذه لم تكن مرادة شرعاً.



    فهذه هي زيارة القبور في هدي الإسلام كما علمهم إيَّاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمن أتى بها على هذا الوجه ولهذه الغاية ظفر بالأجر والفائدة المترتبة عليها، ومن زارها لغير ذلك فهي ردٌّ عليه، ثم إنها إما أن تكون بدعية، وإما أن تكون شركية بحسب ما يحصل فيها من أعمال، ويقارنها من اعتقاد، وقصد ذلك هو هدي الإسلام في زيارة القبور، وتلك هي أهداف وغايات الزيارة واضحة ناصعة بعيدة عن كل ذريعة تؤدي إلى الشرك بأربابها والغلوِّ في أصحابها، وقد جاءت بعض القيود التي تسد الثغرات الموصلة إلى ذلك.


    القيد الأول: ألا تتخذ أعياداً، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا عليَّ، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)). فليس من هدي الإسلام تعيين يوم معين من سنة أو شهر، أو أسبوع يخصص لزيارة القبور كما هو شأن بعض الناس.


    القيد الثاني: ألا تُشَدَّ إليها الرحال، فعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ولا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام، ومسجد الأقصى، ومسجدي)). فهذا النهي عن شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة مقصود به أن يشد رحله مسافراً إلى مكان بعينه لعبادة الله - تعالى - فيه، ولم يثبت أن أحداً من الصحابة أو التابعين، أو علماء أتباع التابعين سافر إلى قبر، أو مشهد لمجرد الزيارة، ولم يصرح أحد منهم باستحباب ذلك العمل، وقال العلامة صديق حسن خان -في كتابه السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم ابن الحجاج، وبعد إيراد مختلف الأقوال ومناقشتها- قال: وأما السفر لغير زيارة القبور كما تقدم نظائره، فقد ثبت بأدلة صحيحة، ووقع في عصره - صلى الله عليه وسلم -، وقرره النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا سبيل إلى المنع منه، والنهي عنه، بخلاف السفر إلى زيارة القبور فإنه لم يقع في زمنه، ولم يقرَّ أحداً من أصحابه، ولم يشر في حديث واحد إلى فعله، واختياره، ولم يشرعه لأحد من أمته لا قولاً ولا فعلاً.


    3 - البناء على القبور واتخاذها مساجد:
    نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمته عن البناء على القبور وتعظيمها بأي نوع من أنواع التعظيم، وأخبر - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يفعل ذلك إلا شرار الخلق عند الله - تعالى -، فعن جندب بن عبد الله قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت بخمس يقول: ((... ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد؛ إني أنهاكم عن ذلك))، وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، ويبنى عليه. وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، ومن يتخذ القبور مساجد)). ففي هذه الأحاديث التي مرت النهي الصريح عن أي نوع من أنواع التعظيم للقبور ومن ذلك، النهي عن اتخاذها مساجد، والنهي عن مجرد البناء عليها، وعن تجصيصها، والكتابة عليها، وقد توجه النهي أول ما توجه إلى قبور الأنبياء والصالحين، لماذا؟ لأنها هي التي يخشى الغلو في أربابها عكس قبور سائر الناس، والفتنة لها أعظم من غيرها. وهذا هو الواقع المشاهد، فإنه ما من مشهد إلا ويزعم أنه بني على ولي صالح، ذي مناقب وكرامات عظيمة يرجى نفعه، ويخاف انتقامه، أو يزعم أنه على نبي من أنبياء الله كما ظهر ذلك تخميناً في أماكن كثيرة من بلاد الله، ولكثير من الأنبياء مع تصريح العلماء أنه لا يُعلم على التحقيق واليقين إلا قبر نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وزاد بعضهم قبر الخليل عليه في الموضع المشهور باسمه في فلسطين.



    وقد قال النووي في تعليقه على حديث رسول الله السابق: قال العلماء: إنما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن اتخاذ قبره مسجداً؛ خوفاً من المبالغة في تعظيمه، والافتتان به، فربما أدى ذلك إلى الكفر كما جرى لكثير من الأمم الخالية، ولما احتاجت الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين والتابعون إلى الزيادة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين كثر المسلمون وامتدت الزيادة إلى أن دخلت بيوت أمهات المؤمنين فيه، ومنها حجرة عائشة - رضي الله عنها -، مدفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -، بنوا على القبر حيطاناً مستديرة حوله؛ لئلا يظهر في المسجد، فيصلي إليه العوام ويؤدي إلى المحذور، ثم بنوا جدارين من ركني القبر الشماليين، وحرفوهما حتى التقيا؛ حتى لا يتمكن أحد من استقبال القبر، ولهذا قال في الحديث: ولولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً. والله أعلم بالصواب.


    وقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتسوية القبور المشرفة مع قرن ذلك بطمس التماثيل، فعن أبي الهيَّاج الأسدي - رحمه الله - قال: قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ ألا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سوَّيته. فهذا أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - يبعث رئيس شرطته أبا الهياج الأسدي لطمس القبور كما بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أي: أنه يطبق ما عرفه وفهمه من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك.


    وقد صرَّح العلماء بخلوِّ القرون المفضلة من وجود المشاهد، قال ابن تيمية -وهو يتكلم عن مشهد رأس الحسين - رضي الله عنه -،-:... دع خلافة بني العباس في أوائلها وفي حال استقامتها؛ فإنهم حينئذ في قوتهم وعنفوانهم ولم يكن على عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم من ذلك شيء في بلاد الإسلام، لا في الحجاز ولا اليمن ولا الشام والعراق ولا مصر ولا خراسان ولا المغرب، ولم يكن قد أحدث مشهد لا على قبر نبي ولا صاحب ولا أحد من أهل البيت ولا صالح أصلاً، بل عامة هذه المشاهد محدثة بعد ذلك، وكان ظهورها وانتشارها حين ضعفت خلافة بني العباس، وتفرقت الأمة وكثر فيهم الزنادقة والملبسون على المسلمين، وفشت فيهم كلمة أهل البدع، وذلك في دولة المقتدر في أواخر المائة الثالثة، فإنه إذ ذاك ظهرت القرامطة العبيدية القداحية بأرض المغرب ثم جاءوا بعد ذلك إلى أرض مصر، وقريباً من ذلك ظهر بنو بويه في كثير منهم زندقة وبدع قوية، وفي دولتهم قويَ بنو القداح بأرض مصر، وفي دولتهم أُظهر المشهد المنسوب إلى علي - رضي الله عنه - بناحية النجف، وإلا فقبل ذلك لم يكن أحد يقول إن قبر علي هناك، وإنما دفن علي - رضي الله عنه - بقصر الإمارة بالكوفة، وإنما ذكروا أن بعضهم حكى عن الرشيد أنه جاء إلى بقعة هناك، وجعل يعتذر إلى المدفون فيها، فقالوا: إنه علي، وإنه اعتذر إليه مما فعل بولده، فقالوا: هذا قبر علي، وقد قال قوم: إنه قبر المغيرة بن شعبة.. ويقول الذهبي في ترجمة عضد الدولة البويهي: وكان شيعياً جلداً أظهر بالنجف قبراً زعم أنه قبر الإمام علي، وبنى عليه المشهد، وأقام شعار الرفض ومأتم عاشوراء والاعتزال ثم قال: وبه ختم ترجمة عضد الدولة: قلت: فنحمد الله على العافية، فلقد جرى على الإسلام في المائة الرابعة بلاء شديد بالدولة العبيدية بالمغرب، وبالدولة البويهية بالمشرق وبالأعراب القرامطة فالأمر لله - تعالى -.
    وقال ابن كثير في حوادث سنة 347هـ: وقد امتلأت البلاد رفضاً وسباً للصحابة من بني بويه وبني حمدان والفاطميين، وكل ملوك البلاد مصراً وشاماً وعراقاً وخراسان وغير ذلك من البلاد كانوا رفضاً وكذلك الحجاز وغيره، وغالب بلاد المغرب، وكثر السب والتكفير منهم للصحابة. ويؤيده كذلك ما ذكره السمهودي - رحمه الله - في كتابه وفاء الوفاء بأخبار المصطفى، وهو يتحدث عن قبر فاطمة - رضي الله عنها - قال: وإنما أوجب عدم العلم بعين قبر فاطمة - رضي الله عنها - وغيرها من السلف ما كانوا عليه من عدم البناء على القبور وتجصيصها.



    وقال الشافعي - رحمه الله -: ولم أر قبور المهاجرين والأنصار مجصصة، قال الراوي عن طاووس: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تبنى القبور أو تجصص، قال الشافعي: وقد رأيت من الولاة من يهدم بمكة ما يبنى فيها فلم أرَ الفقهاء يعيبون ذلك.


    إن الحقيقة التاريخية تقول أن القرون الثلاثة المفضلة مضت وليس هناك قبور معظمة ولا مشاهد أو قباب ولا غيرها من مظاهر القبورية، ولا شيء من طقوس ومراسيم العبادات القبورية، وما حاول فعله الشيعة من ذلك فقد جُوبِه بردع قوي من خلفاء المسلمين وأمرائهم، كأبي جعفر المنصور العباسي، وهارون الرشيد.
    رابعاً: خروج الحسين - رضي الله عنه - في الميزان الشرعي:
    إن عدم التمعن في معارضة الحسين ليزيد، والتأمل في دراسة الروايات التاريخية الخاصة بهذه الحادثة، قد جعلت البعض يجنح إلى اعتبار الحسين خارجاً على الإمام، وأن ما أصابه كان جزاءً عادلاً، وذلك وفق ما ثبت من نصوص نبوية تدين الخروج على الولاة، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((من أراد أن يفرق بين المسلمين وهم جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان)). قال السيوطي: أي فاضربوه شريفاً أو وضيعاً على إفادة معنى العموم.
    وقال النووي معلقاً على هذا الحديث: الأمر بقتال من خرج على الإمام، أو أراد تفريق كلمة المسلمين ونحو ذلك، وينهى عن ذلك، فإن لم ينته قوتل، وإن لم يندفع شره إلا بالقتل قتل، وكان دمه هدراً، وفي الحديث وغيره من الأحاديث المشابهة له جاء تأكيد النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن الخارج على سلطان المسلمين يكون جزاؤه القتل، وذلك لأنه جاء ليفرق كلمة المسلمين، والتعلق المبدئي بهذه النصوص جعلت الكثير يظنون أنا أبا بكر ابن العربي يقول: إن الحسين قتل بسيف جده - صلى الله عليه وسلم -، وإن الجمود على هذه الأحاديث جعلت الكرامية مثلاً يقولون: إن الحسين - رضي الله عنه - باغٍ على يزيد، فيصدق بحقه من جزاء وقتل.
    والبعض قد ذهبوا إلى تجويز خروج الحسين - رضي الله عنه - واعتبروا عمله هذا مشروعاً، وجعلوا المستند في ذلك إلى أفضلية الحسين وإلى عدم التكافؤ مع يزيد.



    وأما البعض فقد جعل خروج الحسين خروجاً شرعياً بسبب ظهور المنكرات من يزيد.


    ولكن إذا أتينا لتحليل مخرج الحسين - رضي الله عنه - ومقتله، نجد أن الأمر ليس كما ذهب إليه هؤلاء ولا هؤلاء، فالحسين لم يبايع يزيد أصلاً، واعترض على فكرة التوريث؛ دفاعاً عن الشورى، ومبادئ الإسلام الداعمة لحق الأمة في اختيار من تريد، وخرج معه إلى مكة عبد الله بن الزبير، وذهبا لأجل جمع الأتباع وحث المسلمين على الوقوف في وجه الانحراف الذي أحدث في نظام الحكم وقلبه من الشورى إلى الوراثة، واستنهض الهمم لتصحيح هذا الخلل الذي استجد في عالم الإسلام، وبدأت رحلة الحسين لجمع الأتباع والأنصار نحو التصحيح، وإعادة نظام الشورى ومنهاج الخلافة الراشدة، والمبادئ الكريمة، لا كما يزعم البعض من كونه خرج طمعاً في الحكم والسلطة؛ لأنه ينبغي أن تكون فيه وفي ذريته.
    بتلك النظرة فيها بخس للحسين ومنهجه، ولأهل البيت ومنهج القرآن، وهدي جده - عليه الصلاة والسلام -.



    إن القول بنظرية النص في علي وذريته قول باطل، ولا توجد أية آثار صحيحة لنظرية النص في قصة كربلاء ولا في غيرها، وقد تحدث عن ذلك الأستاذ أحمد الكاتب في كتابه تطور الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه، وقد ناقشت نظرية النص على ولاية علي وذريته وأدلة الشيعة في ذلك في كتابي عن أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه -.


    إن الحسين - رضي الله عنه - لم يبايع يزيد بن معاوية، وشرع في إعداده العدة، ولم يخرج عن تعاليم الإسلام التي تشترط الإعداد الجيد لإزاحة الحاكم الجائر حتى يغلب الظن على القدرة على ذلك، فهو قد أعد القوة كما تصورها حتى ظنها كافية لتحقيق غرضه، ولكن حساباته - بلا شك - كانت خاطئة؛ فالحسين لم يقم خطأ شرعياً مخالفا للنصوص، وخاصة إذا عرفنا أن جزءًا من الأحاديث جاءت مبينة لنوع الخروج، فعن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الصلاة المكتوبة إلى الصلاة التي بعدها كفارة لما بينهما، والجمعة إلى الجمعة، والشهر إلى الشهر -يعني رمضان- كفارة لما بينهما...)) قال: ثم قال بعد ذلك: ((إلا من ثلاث)) قال: فعرفت أن ذلك الأمر حدث، ((إلا من الإشراك بالله، ونكث الصفقة، وترك السنة: قال: أما نكث الصفقة: أن تبايع رجلاً ثم تخالف إليه تقاتله بسيفك، وأما ترك السنة فالخروج من الجماعة)).


    والحسين - رضي الله عنه - ما خرج يريد القتال، ولكن ظن أن الناس يطيعونه، فلما رأى انصرافهم عنه، طلب الرجوع إلى وطنه أو الذهاب إلى الثغر، أو إتيان يزيد، ولقد تعنَّت ابن زياد أمام مرونة الحسين وسهولته، وكان من الواجب عليه أن يجيبه لأحد مطالبه، ولكن ابن زياد طلب أمراً عظيماً من الحسين، وهو أن ينزل على حكمه، وكان من الطبيعي أن يرفض الحسين هذا الطلب، وحُقَّ للحسين أن يرفض ذلك؛ ذلك لأن النزول على حكم ابن زياد لا يعلم نهايته إلا الله، ولربما كان حكمه فيه القتل، ثم إن هذا العرض إنما كان يعرضه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الكفار المحاربين أعداء الإسلام، والحسين - رضي الله عنه - ليس من هذا الصنف، بل هو من أفاضل المسلمين وسيدهم، ولهذا قال ابن تيمية: وطلبه أن يستأسر لهم، وهذا لم يكن واجباً عليه.
    والحقيقة أن ابن زياد خالف الوجهة الشرعية والسياسية حين أقدم على قتل الحسين - رضي الله عنه -، فالظالم هو ابن زياد وجيشه الذين قدموا على قتل الحسين - رضي الله عنه - بعد أن رفضوا ما عرض الحسين من الصلح.



    ثم إن نصح الصحابة للحسين يجب أن لا يفهم على أنهم يرونه خارجاً على الإمام -كما ذهب لذلك يوسف العش-. بل إن الصحابة - رضوان الله عليهم - أدركوا خطورة أهل الكوفة على الحسين، وعرفوا أن أهل الكوفة كذَبَة، وقد حملت تعابير نصائحهم هذه المفاهيم.


    يقول ابن خلدون: فتبين بذلك غلط الحسين، إلا أنه في أمر دنيوي لا يضره الغلط فيه، وأما الحكم الشرعي فلم يغلط فيه؛ لأنه منوط بظنه، وكان ظنه القدرة على ذلك، وأما الصحابة - رضوان الله عليهم - الذين كانوا بالحجاز ومصر والعراق والشام والذين لم يتابعوا الحسين - رضوان الله عليه -، فلم ينكروا عليه، ولا أثَّموه؛ لأنه مجتهد، وهو أسوة للمجتهدين به.


    قال ابن تيمية: وأحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - التي يأمر فيها بقتل المفارق للجماعة لم تتناوله؛ فإنه - رضي الله عنه - لم يفارق الجماعة، ولم يقتل إلا وهو طالب للرجوع إلى بلده، أو إلى الثغر، أو إلى يزيد، داخلاً في الجماعة، معرضاً عن تفريق الأمة، ولو كان طالب ذلك أقل الناس لوجب إجابته إلى ذلك، فكيف لا تجب إجابة الحسين، ولم يقاتل وهو طالب الولاية، بل قتل بعد أن عرض الانصراف بإحدى ثلاث... بل قتل وهو يدفع الأسر عن نفسه، فقتل مظلوماً.


    خامساً: بعض الرؤى في قصة الحسين - رضي الله عنه -:
    ومن هذه الرؤى المتعلقة بقصة مقتل الحسين - رضي الله عنه -، عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام بنصف النهار أشعث أغبر معه قارورة فيها دم يلتقطه، قلت: يا رسول الله، ما هذا؟ قال: دم الحسين وأصحابه، لم أزل أتتبعه منذ اليوم، قال عمار -راوي ذلك الحديث-: فحفظنا ذلك فوجدناه قُتِل ذلك اليوم، وهذا سنده صحيح عن ابن عباس، وروى ابن سعد بأسانيده: قالوا: وأخذ الحسين طريق العُذيب حتى نزل قصر أبي مقاتل، فخفق خفقة، ثم استرجع، وقال: رأيت كأن فارساً يُسايرنا، ويقول: القوم يسيرون، والمنايا تسري إليهم، وقال بعض الناس إن الحسين - رضي الله عنه – بنى خروجه على يزيد على رؤيةٍ رآها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبأن رسول الله أمره بأمر وهو ماضٍ له، وقد اعتمد على الرؤى قوم في أخذهم الأحكام، ويقول الشاطبي: وأضعف هؤلاء احتجاجاً قوم استندوا في أخذ الأعمال إلى المقامات، وأقبلوا وأعرضوا بسببها، فيقولون: رأينا فلاناً -الرجل الصالح-، فقال لنا: اتركوا كذا واعملوا كذا، ويتفق مثل هذا كثيراً للمترسمين برسم التصوف، وربما قال بعضهم: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في النوم، فقال لي كذا، وأمرني بكذا، فيعمل بها، ويترك بها، معرضاً عن الحدود الموضوعة في الشريعة، وهو خطأ؛ لأن الرؤيا من غير الأنبياء لا يحكم بها شرعاً على حال، إلاَّ أن تعرض على ما في أيدينا من الأحكام الشرعية، فإن سوغتها عُمِل بمقتضاها، وإلا وجب تركها، والإعراض عنها، وإنما فائدتها البشارة أو النذارة خاصة، وأما استفادة الأحكام فلا.



    وعليه فلا عصمة فيما يراه النائم، بل لا بد من عرضه على الشرع، فإن وافقه فالحكم بما استقر؛ لأن الأحكام ليست موقوفة على ما يرى من المنامات، وإن خالف ردَّ مهما كان حال الرائي أو المرئي، ويحكم على تلك الرؤيا بأنها حلم من الشيطان، وأنها كاذبة وأضغاث أحلام.


    ولكن يبقى أن يقال: ما فائدة الرؤيا الموافقة للشريعة، إذا كان الحكم بما استقر عليه الشرع؟.


    فائدتها التنبيه والبشرى كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لم يبق من النبوة إلا المبشرات)). قالوا: وما المبشرات؟ قال: ((الرؤيا الصالحة))، فإن الرجل الصالح قد يرى في النوم ما يؤنسه أو يزعجه فيكون ذلك دافعاً له إلى فعل مطلوب أن ترك محظور.


    سادساً: أخبار الرسول - صلى الله عليه وسلم - بمقتل الحسين - رضي الله عنه -:

    عن أم سلمة قالت: كان جبريل عند النبي - صلى الله عليه وسلم - والحسين معي، فبكى الحسين، فتركته، فدخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فدنى من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال جبريل: أتحبه يا محمد؟ فقال: ((نعم)). قال: إن أمتك ستقتله، وإن شئت أريتك من تربة الأرض التي يقتل بها، فأراه إياها، فإذا الأرض يقال: لها كربلاء، وقد وقع الأمر كذلك بعد مضي سنين طويلة، وهذه معجزة من معجزاته - صلى الله عليه وسلم - الدالة على نبوته وأنه رسول الله حقاً وصدقاً، فقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك عن طريق الوحي.



    سابعاً: انتقام الله من قتلة الحسين - رضي الله عنه -:
    لقد انتقم الله للحسين الشهيد - رضي الله عنه - من قاتليه وعلى رأسهم عبيد الله بن زياد، ويزيد بن معاوية، وكل من شارك في قتله لم يَسلم، أما عبيد الله بن زياد فقد قتله إبراهيم بن الأشتر وحز رأسه وأرسل به إلى المختار ابن أبي عبيد الله الثقفي، يقول ابن عبد البر: قتل الحسين - رضي الله عنه - يوم الأحد لعشر مضين من المحرم يوم عاشوراء، سنة إحدى وستين... وقضى الله - عز وجل - أن قتل عبيد الله بن زياد يوم عاشوراء سنة سبع وستين، قتله إبراهيم بن الأشتر في الحرب، وبعث برأسه إلى المختار، وبعث به المختار إلى ابن الزبير وبعث به ابن الزبير إلى علي بن الحسين، وقد صحَّ من حديث عمار بن عمير قال: جيء برأس عبيد الله بن زياد وأصحابه فأتيناهم وهم يقولون: قد جاءت، قد جاءت، فإذا حية تخلل الرؤوس، حتى دخلت منخر عبيد الله فمكثت هُنيَّهة ثم خرجت وغابت. ثم قالوا: قد جاءت، قد جاءت، ففعلت ذلك مرتين أو ثلاثاً.
    أما يزيد بن معاوية فقد مقته الناس وأبغضوه لمقتل الحسين وثار عليه غير واحد، وثار عليه أهل المدينة النبوية الشريفة، فارتكب جريمة أخرى هي موقعة الحرَّة بالمدينة فلم يمهله الله - تعالى -، وكانت دولته أقل من أربع سنين، وجاء عن أبي رجاء العطاردي قال: لا تسبوا علياً ولا أحداً من أهل البيت، كان لنا دار من بلهجيم قال: ألم تروا إلى هذا الفاسق الحسين ابن على قتله الله؟ فرماه الله بكوكبين في عينيه فطمس بصره!.



    قال ابن كثير: وأما ما روي من الأحاديث والفتن التي أصابت من قتله فأكثرها صحيح، فإنه قلَّ من نجا من أولئك الذين قتلوه من آفة أو عاهة في الدنيا، فلم يخرج منها حتى أصيب بمرض وأكثرهم أصابه الجنون.


    ثامناً: القوى المضادة للإسلام ومصيبة كربلاء:

    نجحت القوى المضادة لدولة الإسلام في حدوث واقعة كربلاء ثم وجدوا فيها الفرصة السانحة لتمزيق الجماعة الإسلامية، وتفريق الكلمة بتحويل النزاع بين المسلمين، فقد كانت الكوفة مجمع شذاذ الناس وأشرارهم مع خيارهم، فقد أتى إليها الصحابة، كما أتى النصارى واليهود، وأقبلت القبائل العربية، كما أقبل الموالي، وانتشرت الزندقة والسحر، وانتشرت الحلقات المتعارضة، والمجامع المتنافرة، وشرع اليهود بالكوفة في نشر التلمود، والنصارى كانوا ينادون بتجسيد الألوهية، فأطلت رؤوس مجامعهم السرية مع المراكز المتطفلة الخفية، واستُغل دم الحسين، واعتبروه ذا قيمة في التضحية تشبه دم المسيح عند النصارى، وتسلل إلى نفوس من أسلم من الفرس من هذا الطريق يستثيرونهم ضد الدولة بحجة أن الحسين كان قد تزوج جيهان شاه ابنة يزدجرد أم علي بن الحسين، فارتفعوا بهذه الفاجعة عن مصائب البَشَر الاعتيادية، فشبهوها بمصائب الأنبياء، وتسللت من خلالها أفكار أهل الكتاب بسهولة..



    واعتبروا أن الحسين لم يتألم لما أصاب أهله ونفسه من القتل والإيذاء بل إنه تألم؛ لأن أمَّة جدِّه المسؤول عن هدايتها -بصفته الإمام والحجة- ضلت بحربها إياه، وهذا يذكرنا بفكرة النصارى عن صلب المسيح وتعذيبه، فكان من السهل بذر هذه الفكرة من قبل أهل الكتاب في نفس من أسلم حديثاً، فأقبل الموالي على التشيع ورأوا في الحسين إنساناً روحانياً قدر له الله منذ الأزل أن يفتدي الإسلام بدمه ويحفظه بتضحية نفسه، فقرن بدور المسيح المخلص...! وكان لمستشاري يزيد من النصارى مثل سرجون أثر في تلك الأحاديث الدامية وما ترتب عليها من نكبات ومصائب.



    تاسعاً: استشهاد الحسين - رضي الله عنه - نقطة تحول في التاريخ الفكري والعقدي للتشيع:


    يعتبر استشهاد الحسين - رضي الله عنه - نقطة تحول في التاريخ الفكري والعقدي للتشيع؛ إذ لم يقتصر أثر هذه الحادثة الأليمة على إذكاء التشيع في نفوس الشيعة وتوحيد صفوفهم، بل ترجع أهمية هذه الحادثة إلى أن التشيع كان قبل مقتل الحسين مجرد رأي سياسي لم يصل إلى عقائد الشيعة، فلما قتل الحسين امتزج التشيع بدمائهم، وتغلغل في أعماق قلوبهم، وأصبح عقيدة راسخة في نفوسهم، لقد نظر الشيعة إلى استشهاد الحسين على أنه أهم من استشهاد علي بن أبي طالب نفسه؛ لأنه الحسين ابن بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد اعتنق الفرس مبدأ التشيع وبذلك تمركزت العقيدة الشيعية حول الحسين وسلالته دون الحسن وذريته، وإلى اعتناق مبدأ حق الحسين بن علي الإلهي وذريته في الخلافة، وأن الإمامة بالنص لا بالاختيار، بل اعتبر الشيعة سفك دم الحسين في سهل كربلاء ذا قيمة في التضحية تشبه سفك دم المسيح المزعومة عند المسيحية، ولم يقتصر التمايز الفكري والعقدي بين أهل السنة والشيعة بعد مقتل الحسين، بل إن الشيعة أنفسهم قد أثر فيهم مصرع الحسين، وانقسموا على أنفسهم، وافترقوا بعد مقتله إلى فرق، ولكي يكون لمقتل الحسين أهمية خاصة عند الشيعة فقد أكدوا على أهمية يوم عاشوراء، وتفننوا في إظهار الحزن في ذلك اليوم كما ابتدعوا لفضائل ذلك اليوم من الأحاديث والآثار ما لا يقع عليه الحصر، وقد جعلوا البكاء على الحسين يوم عاشوراء يمسح الذنوب ويغفر ما تقدم منها، مما جعل الاحتفال بيوم عاشوراء واجباً دينياً يقوم به الحكام والمحكومين على السواء، ويبالغون في إظهار عواطفهم المذهبية في هذا اليوم الحزين، لقد أراد واضعو التشيع وعقائده التأكيد على يوم عاشوراء، ويكون التشيع عقيدة ملتهبة في نفوس أتباعها، وكانت دولهم تهتم بهذا الأمر، كالدولة البويهية بالعراق والدولة العبيدية الفاطمية بمصر، وقد تعرضت لعقائد الشيعة بنوع من التفصيل في كتابي عن أمير المؤممين علي - رضي الله عنه -.


    عاشراً: من دعاء الحسين - رضي الله عنه -:

    دعا الحسين - رضي الله عنه - بهذا الدعاء قبل المعركة: اللهم أنت ثقتي في كل كرب، ورجائي في كل شدة، وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة، كم من همٍّ يضعف فيه الفؤاد، وتقل فيه الحيلة، ويخذل فيه الصديق، ويشمت فيه العدو، أنزلته بك وشكوته إليك، رغبةً مني إليك عمن سواك، ففرجته وكشفته، فأنت ولي كل نعمة، وصاحب كل حسنة، ومنتهى كل رغبة.


    إن الحسين - رضي الله عنه - يعلمنا حسن الدعاء والالتجاء إلى الله - تعالى - والثقة به والتوكل عليه والرغبة إليه فجدُّه - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((ليس شيء أكرم على الله من الدعاء))، وقد تعلم الحسين - رضي الله عنه - من تعاليم جدِّه - صلى الله عليه وسلم -، بأن الاستعانة لا تكون إلا بالله، والشكوى لا تكون إلا إليه - سبحانه -، فلا يستعين المرء ولا يشكو إلا إلى الله وحده، دون غيره من نبي أو إمام أو صالح.. ويعلمنا الحسين - رضي الله عنه - أن الدعاء لا يصرف إلا لله وحده دون سواه، فهذا الحسين - رضي الله عنه - لم يدعُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو أباه علياً، وهو في هذا الموقف العصيب الذي يودع فيه الحياة، بل دعا الله وحده، وتوسل إليه فقط، وفي هذا يعلمنا الحسين - رضي الله عنه - منهجاً يجب ألا نحيد عنه.
    avatar
    طيبة
    عضو جديد


    الأوسمة : حقائق غائبة حول استشهاد الحسين - رضي الله عنه - وأحداث كربلاء Rks39110
    عدد المساهمات : 159
    نقاط : 313
    تاريخ التسجيل : 18/01/2017
    المزاج : الحمد لله

    حقائق غائبة حول استشهاد الحسين - رضي الله عنه - وأحداث كربلاء Empty شكر لصاحب الموضوع

    مُساهمة من طرف طيبة الأربعاء يناير 18, 2017 11:53 am

    رضي الله عن الحسين وعن والديه
    وجازى قاتله بما يستحق

    جزاك الله خيرا طرح قيم جدا
    بارك الله فيك وضاعف أجرك
    أشكرك على هذا السرد الدقيق

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس مارس 28, 2024 6:40 pm