الدولة العثمانية: نشأتها وتطورها وانحطاطها
أولاً: نشأة الدولة العثمانية
تعد الدولة العثمانية أطول الدول الإسلامية عهداً؛ فقد عاشت 661 سنة، وأطولها فترة في مراحل نشأتها وتكونها ثم انحدارها. وهي الدولة الإسلامية الوحيدة التي تمكنت من فتح القسطنطينية، والهيمنة على أجزاء شاسعة من أوروبا وآسيا وأفريقيا، في وقت واحد. وظلت لعدة قرون قائدة العالم الإسلامي، والممثلة له. توافقت نشأتها مع عصر تطور النهضة في أوروبا، واتجاه مؤسساتها الناشئة إلى حركة الاستعمار في زمن الانتقال من القرون الوسطى إلى العصور الحديثة. وأخيراً، فقد ظلت دوماً تقوم على ثلاثة بحار هامة، هي البحر المتوسط والبحر الأسود والبحر الأحمر. وقد توالى على عرش السلطة فيها ستة وثلاثون سلطاناً، من سلالة واحدة، تكرر بعضهم مرتين وبعضهم ثلاث مرات.
1. تأسيس الدولة العثمانية
لم يبرز للعثمانيين وجود تاريخي قبل القرن السابع الهجري/12م؛ ولذلك نسجت حول أصلهم وأوائلهم الكثير من الأساطير حسب الأهواء والظنون.
تسبب الغزو المغولي في هجرة كثير من القبائل التركية من وسط آسيا إلى الأناضول، وتعاظمت هجراتهم بعد انتصار السلاجقة على البيزنطيين في معركة (ملاذكرت) عام 1071م.
وتُنسب الدولة العثمانية إلى مؤسسها عثمان بن أرطغرل، الذي ولد عام 656هـ (1258م)، وتوفي عام 726هـ (1326م). و هو إلى عشيرة قايي، من قبيلة الغز (الأغوز) التركية. هاجر جده سليمان شاه، أمير عشيرة قايي، مع عشيرته من موطنه الأصلي، في آسيا الوسطى، ليستقر في الأناضول، في كنف دولة سلاجقة الروم، حوالي عام 618 هـ (1123م)، وظل يتنقل بهم من منطقة أخلاط، ومنها إلى أرضروم، ثم إلى أماسية في الأناضول. ثم انحدر بهم إلي حوض الفرات، حتى شرقي حلب. ولكنه غرق أثناء عبور النهر، ودُفن في قلعة جعبر، داخل الحدود السورية، ولا يزال قبره هناك إلى اليوم.
تولى زعامة العشيرة بعده ابنه أرطغرلبن سبيمان؛ فتحرك بها، شمالاً مرة أخرى إلى الأناضول. وشارك السلطان السلجوقي، علاء الدين كيقباد الأول، في حروبه ضد المغول وأبلى هو رجاله بلاءً حسناً؛ فأقطعه السلطان علاء الدين السلجوقي منطقة قراجة طاغ القريبة من أنقرة عام 628هـ (1133م). ويقال أنه أقطعه كذلك بلدتي سوغود ودومانيج، على الحدود مع البيزنطيين، في غربي الأناضول. ومنحه لقب (حارس الحدود).
توفي أرطغرل في بلدة سوغود، عام680هـ (1281م)، فتولى بعده ولده عثمان، سيداً على عشيرته وحاكماً للمقاطعة. وأخذ يشن الغارات والحملات الهجومية على البيزنطيين، ويكسب منهم قلاعاً وقرى ويضمها، لحساب الدولة السلجوقية. ومنحه السلطان السلجوقي علاء الدين كيقباد الثالث جهات إسكي شهر وإينونو، عام 1289م.
حاصر عثمان مدينة بورصة، المعروفة في غرب الأناضول، في عام 1314م، ولكنه لم يتمكن من فتحها.
وتوسعت منطقة نفوذ عثمان أو إمارته، فشملت مناطق سوغود، ودومانيج، وإينه كول، ويني شهر، وإن حصار، وقويون حصار، وكوبري حصار، ويوند حصار. وجعل في عام 1300م، يني شهر مركزاً لتلك الإمارة.
وفد على عثمان بن أرطغرل كثير من علماء الدولة السلجوقية، التي كانت في طريقها إلى الاضمحلال، وأقبل عليه أمراؤها وأعيانها، فدخلوا تحت حمايته.
يُرجع كثيرٌ من الباحثين نشأة الدولة العثمانية إلى عام 699هـ (1299م)، عندما استقل الأمير عثمان بإمارته الصغيرة عن الدولة السلجوقية.
بينما يرجعها البعض الآخر إلى عام 708هـ (1308م)، عندما توفي آخر سلاطين سلاجقة الروم السلطان غياث الدين مسعود الثالث، حيث كانت الإمارة العثمانية تابعة للدولة السلجوقية قبل ذلك.
ومع أنّ عثمان بن أرطغرل لم يلقّب بالسلطان أو الخان إلاّ بعد وفاته، إلا أنه يعد المؤسس الأول للأسرة. وقد حكم 45 عاماً، واستطاع توسيع مملكته من 4800 كم2، عند توليه الإمارة بعد والده أرطغرل، عام 681هـ (1281م)، إلى 16 ألف كم2، حين سلمها لولده أورخان، عام 726هـ (1326م) .
اتخذ أورخان بن عثمان (الذي ولد عام 1281م)، مدينة بورصة، الواقعة في أقصى غرب الأناضول، عاصمة لملكه، وقاعدة لتحركاته، بعد أن تيسر له فتحها قبيل وفاة والده، عام 726هـ (1326م). ثم فتح إزمير عام 1327م، وطاوشانلي في عام 1330م. واستطاع بذلك أن يفرض على الإمارات السلجوقية المجاورة، الاعتراف الفعلي بحكمه، وبأنه وريث العرش السلجوقي.
ومما زاد من شهرته، تمكنه من هزيمة الامبراطور البيزنطي، الذي حاول استعادة مدينة إزنيق من العثمانيين، عام 732هـ (1331م). وقد بدأ السلطان أورخان، بعد ذلك، باتباع سياسة متسمة بالحكمة، في التعامل مع البيزنطيين، وتحرص على عدم البدء بالاعتداء، مع محاولة الوصول إلى البحار المفتوحة والمضايق.
وقد توالت الفتوحات، طيلة حكم السلطان أورخان، الذي يعد أول أمير عثماني تسمى بلقب السلطان. وفي عام 736هـ (1335م)، كوّن جيشاً منظماً، ومدرباً أحسن تدريب. وانضمت بعض الإمارات السلجوقية إلى الدولة العثمانية، التي وصلت حدودها إلى البحر، بعد أن استولت على أسكودار، وهي الضفة الآسيوية من مدينة إستانبول. وفي الوقت نفسه، توسعت الدولة في الجانب الشرقي من البلاد، ففتحت مدينة أنقرة، عام 756هـ (1354م).
سنّت الدولة، في فترة حكم السلطان أورخان، وبإشارة من الوزير قره خليل جاندارلي، قانوناً يقضي بتشكيل جيش سمي "الإنكشارية"، وبمقتضى هذا القانون يؤخذ بعض أولاد النصارى، ويُعنى بتربيتهم، وتهذيبهم تهذيباً إسلامياً، حتى إذا بلغوا سن التجنيد، أُرسلوا إلى الثكنات العسكرية في العاصمة؛ ليتولوا الدفاع عن أراضي الدولة دفاعاً مستميتاً.
كما وضعت تنظيمات إدارية ومالية، في عهد السلطان أورخان، أصبحت قاعدة، تركن إليها الدولة في السنوات التالية، مثل النظام الخاص بإقطاع الأراضي الأميرية، وكيفية تقسيمها على المشاركين في الحرب، وتشكيل الوزارة، وغيرها من الأنظمة، التي استقرت قواعد الدولة عليها.
2. الفتوح العثمانية في أوربا
كانت الدولة البيزنطية، هي العدو الرئيسي للعثمانيين، وكانت تتحيَّن الفرص للإيقاع بهم. واتحد قيصر روسيا مع أهالي البندقية، الذين كانوا يهاجمون حدود الدولة العثمانية من جهة البحر في أغلب الأحيان. أصدر السلطان أورخان أمره لولده الأمير سليمان، بالاستعداد، والزحف إلى بلاد الرومَلي، وهي الجزء الأوروبي من الدولة البيزنطية. فجهز الجيوش، وتقدم بها، عام 757هـ (1357م)، حتى وصل إلى مضيق الدردنيل، وعبر إلى ساحل الروملي. واستولى على قلعة جناق (جناق قلعة) سنة 758هـ (1357م). وعُدّ ذلك العبور بداية التاريخ البحري للدولة العثمانية. وتوالت فتوحات الأمير سليمان بن أورخان وجنوده في بلاد الروملي، ونجح في إخضاع البلاد القريبة من غاليبولي.
وعلى الرغم من اهتمام الدول الأوروبية بهذا الفتح العثماني، ومراقبتها لتحركاته عن كثب، ومحاولتها مواجهة هذه القوة الجديدة، التي بلغت قواتها المحتشدة في غاليبولي عشرين ألف مقاتل؛ إلا أن تلك الدول بسبب النزاعات الداخلية بين دول البلقان، انصرفت عن اتخاذ إجراءات مناسبة. وقد اتبعت الدولة العثمانية في الأراضي المفتوحة حديثاً، سياسة التعامل بالحسنى مع الأهالي، ونقلت آلاف المسلمين من الأناضول إلى تلك المناطق.
اتسمت فترة حكم أورخان بأمرين:
أولهما: اتساع الفتوحات العثمانية في عهده.
ثانيهما: تنظيم الحكم في الدولة، بعد اتساع رقعتها. وقد ساعد هذا التنظيم على استقرار الدولة وتوسعها.
غير أن الوفاة المفاجئة، للأمير سليمان بن أورخان، عام 761هـ (1360م)، بعد أن حقق فتوحات كبيرة في البلقان، أثّرت على والده السلطان أورخان، فتوفي بعده بفترة وجيزة. وقد أدى ذلك إلى توقف حركة الفتوحات، مدّة من الزمن؛ إذ أن الدولة العثمانية فقدت قائداً باسلاً من قوادها، ثم فقدت سلطاناً قديراً في إدارة شؤون بلاده. وكان ذلك إيذاناً باستفادة الدول الأوروبية من هذا الوضع، واستعادة بعض المدن والقلاع التي استولى عليها العثمانيون.
3. فتح أدرنة
لما انتقل العثمانيون إلى البلقان، وفتحوا بعض أجزائها، أحسوا بالأهمية الإستراتيجية لمدينة أدرنة. فحاول السلطان مراد الأول، الذي انتقل إليه الحكم العثماني بعد والده ، السلطان أورخان، عام 761هـ (1360م)، الوصول إلى هذه المدينة. وقد تحقق له فتحها، عام 764هـ (1363م)، بعد عدة معارك، مستفيداً من التمزق السلافي في البلقان. غير أن السلطان مراداً لم يكتف بهذا الفتح، فاستولى على مدينتي: فليبة، وكمولجينة، وبعض المدن المجاورة، حتى يقطع خطوط الاتصال بين صرب مقدونيا، وبيزنطة، وبلغاريا. وعَمِل تدبيراً احتياطياً آخر بأن نقل عاصمة الدولة العثمانية من بورصا إلى أدرنة، عام 768هـ (1365م). وسرعان ما شهدت المدينة حركة عمرانية دؤوبة، تمثلت في بناء المساجد الجامعة، والمدارس، وتشييد المؤسسات الاجتماعية، والإدارات الحكومية، والمعاهد العسكرية.
وقد استهدف السلطان مراد من هذه النقلة:
أ. استغلال مناعة الاستحكامات الحربية للمدينة، وقربها من مسرح العمليات العسكرية.
ب. توطيد أقدام العثمانيين في قارة أوروبا.
ج. جعل المدينة مركزاً يجمع فيه أبناء النصارى لتجنيدهم، وذلك بفضل موقعها الجغرافي، وسط بلاد يدين أهلها بالنصرانية. وبموجب النصيحة، التي أسداها للسلطان كل من: قاضي الجيوش، في الدولة العثمانية، قره خليل جاندارلي، والشيخ (المُلاّ) رستم، فقد تقرر تحصيل 125 آقجة[1]، للدولة، عن كل أسير حرب، يقع في يد الجنود العثمانيين، أو أن يُضم خُمس الأسرى للتجنيد. وقد أُطلق على هذه الضريبة (رسمِ بنجيك)، أي الخُمُس.
ونظراً إلى اتساع نطاق الفتوحات، فقد أُنشأت، في الدولة، في ذلك العهد، وظيفة (قاضي عسكر)، وهي أعلى مرتبة دينية وعلمية في الدولة العثمانية، وتختص بالنظر في المسائل الشرعية لأفراد الجيش. ويرافق قاضي العسكر السلطان في غزواته. وقد عُين لهذا المنصب لأول مرة قاضي بورصة، قره خليل أفندي جاندارلي.
وفي الوقت الذي ازداد فيه النفوذ العثماني، وتوسعت رقعة أراضي الدولة، وانضمت الإمارات التركية إلى الدولة العثمانية، الواحدة تلو الأخرى، جهَّز الصرب حملة صليبية جديدة، بقيادة حاكم صربيا، لازار، ضد العثمانيين، شارك فيها كل من أمراء المجر، وبولونيا، ورومانيا، ومولدافيا، وبلغاريا. والتقى السلطان مراد الأول وابناه العدو، في صحراء كوسوفا، عام 792هـ (20 يونيه 1389م). ودارت المعركة حوالي ثماني ساعات، تغلب فيها العثمانيون على خصومهم. وبعد انتهاء المعركة، وبينما كان السلطان يتفقد ميدان القتال، اقترب منه أمير صربي جريح، بحجة أن لديه ما يعرضه عليه، وطعنه بخنجر في بطنه، فمات السلطان مراد الأول على الفور. وانتقلت سدة الحكم إلى ابنه بايزيد، الذي توجه إلى بورصة، ومعه جثمان والده، فدفنه بها.
أدخل انتصار قوصوه( أو كوسوفا) الساحق البلقان تحت الحكم العثماني الإسلامي، لمدة خمسمائة سنة. وقد بلغت مساحة الدولة العثمانية، عند وفاة السلطان مراد، 500.000 كم2 تقريباً (291.000 كم2 في البلقان، و 208.000 كم2 في الأناضول). وبذلك تضاعفت مساحة الدولة، التي خلفها السلطان أورخان، خمسة أضعاف، خلال 27 سنة.
وكان من أهم نتائج معركة كوسوفا ما يلي:
أ. انتشار الإسلام بين الصرب.
ب. دخول بلاد الصرب تحت السيطرة العثمانية، حتى القرن التاسع عشر الميلادي.
4. معركة أنقرة مع التتار
تولى السلطان بايزيد الأول الحكم، بعد استشهاد والده، عام 792هـ (1388م). وكان متحمساً لمواصلة الفتوحات التي بدأها والده، فقضى على آخر إمارة بيزنطية في الأناضول، وهي مدينة آلا شهر. كما اكتسح بلغاريا عام 797هـ (1393م)، مما أدى إلى تكتل الدول الأوروبية المسيحية في وجهه في حملة صليبية، غير أنه استطاع أن يصدها، وأن يخضع البلاد البلقانية للدولة العثمانية، ويوطد أقدام العثمانيين في البلقان. إلاّ أن إغارات القائد التتري تيمورلنك، على أراضي الدولة العثمانية، في تلك الفترة، حوَّلت أنظار السلطان بايزيد إلى الدفاع عن الأناضول، بدلاً من التوسع في أوروبا، فاستعد السلطان لملاقاة تيمورلنك، وجمع رجاله، وتوجه بهم نحو أنقرة، حيث نصب معسكره قريباً منها. ولما استعد الطرفان للقتال، انحاز جنود ولايات آيدين، ومنتشة، وصاروخان، وعددهم خمسون ألفاً، إلى جانب تيمورلنك، لوجود أمرائهم الأصليين، الذين استولى العثمانيون على بلادهم، في معيته؛ فضعفت بذلك قوة العثمانيين، ووقع الخلل في صفوفهم، ولم يبق لهم إلاّ الإنكشارية، وعددهم عشرة آلاف. ولما اشتعلت نيران الحرب، انهزم العثمانيون هزيمة نكراء، ووقع السلطان بايزيد مع ابنه أسيرين، في يد تيمورلنك، فأهانهما إهانة بالغة. وكانت تلك الهزيمة والإهانة، سبباً في تراكم الهموم على السلطان بايزيد، فأصابه مرض توفي به في عام 806هـ (1403م).
يقول المؤرخ أحمد جودت باشا: كان ذلك القرن هو الدور الأول للدولة العثمانية. فإنها في تلك المدة، أي في ظرف مائة سنة، عظم أمرها، وقويت أركانها، وصارت دولة عظيمة بعد أن كانت إمارة صغيرة.
5. عهد الفوضى
عقب وفاة السلطان بايزيد الأول، وانسحاب تيمورلنك بقواته من الأناضول نشب الخلاف بين أبناء بايزيد وتطور إلى حرب أهلية، وسميت تلك الفترة في التاريخ التركي "عهد الفترة" أي الانقطاع. واستمرت هذه الحرب مدة عشر سنوات (806-816هـ/ 1403-1413م)، ولم تنته إلاّ بعد أن وحد الأمير محمد جلبي بن بايزيد أطراف الدولة، واستتب له الحكم، وحمل لقب السلطان محمد الأول.
وأسدى السلطان محمد الأول، إلى الدولة خدمة جليلة؛ إذ أزال آثار معركة أنقرة، وعمل على تنظيم الدولة، فمهّد الطريق أمام خلفائه، ليتابعوا سياسة التوسع الإقليمي من جديد، سواء في أوروبا أو في غيرها. كما شنّ الغارات المتوالية على بلاد أردل والمجر، وقاد جيوشه فتمكن من الاستيلاء على يركوي، ودوبروجه. وقد أدت تلك الغارات إلى دخول الإقطاعيين، في بلاد البوسنة، تحت الحكم العثماني (823-826هـ/1420-1423م). ثم رجع السلطان محمد الأول إلى الأناضول. وراح يوجه غاراته فيما بعد نحو الشرق؛ بسبب التهديدات التي تتعرض لها الأراضي العثمانية، من جانب الصفويين. فاستطاع الاستيلاء على الأراضي التي تحكمها أسرة جاندار أغلو، وهي أرضروم وأرزنجان، وشَبِن قاراحصار، بعد أن قضى على إمارتهم.
انتقلت الدولة العثمانية إلى مرحلة جديدة، بعد فترة حكم السلطان محمد الأول، الذي لم يَدُمْ طويلاً؛ حيث قام ابنه السلطان مراد الثاني بأعمال، اتسمت بالحفاظ على توحيد أراضي الدولة، والقضاء على العقبات، التي تثيرها الإمارات التركية في الأناضول، ومن ثم تصفيتها لصالح الدولة العثمانية. والعمل على إيجاد توازن بين مختلف القوى السياسية والاجتماعية في الأناضول.
6. فتح إستانبول
انتقل الحكم العثماني إلى السلطان محمد الفاتح، عام 855هـ (1451م). وكان فتح إستانبول يراود أحلامه، حتى تكون أملاك الدولة متصلة، لا يتخللها عدو مهاجم، وحتى يتسنى له، منذ الأيام الأولى من حكمه، حسم مشكلة القسطنطينية، التي كانت تمثل وكراً للمؤامرات ضد الدولة العثمانية. غير أنه قبل أن يفتحها أراد أن يحصن البوسفور، حتى لا يأتي لها مدد من مملكة طرابزون. وفي الوقت نفسه، كان عليه إتمام عملية الفتح، قبل وصول المساعدات من الغرب وتوحد قوات الدول الصليبية. بدأ السلطان محمد الفاتح بتنفيذ خططه العسكرية، على الرغم من معارضة خليل باشا جاندارلي. واستمر الحصار ثلاثة وخمسين يوماً. تيسر بعدها فتح المدينة عام 857هـ (1453م)، التي أصبحت عاصمة للدولة العثمانية إلى سقوطها في عام 1342هـ (1922م).
وقد ابتدأ بذلك الفتح العظيم عصر جديد؛ حيث أصبحت الدولة العثمانية دولة عالمية، وكان ذلك الفتح بداية للقيام بحروب طويلة، شنها السلطان محمد الفاتح على بلاد الصرب، والبوسنة، والهرسك، والمورة، وألبانيا، وجمهوريتي جنوا والبندقية، ومملكة نابولي. وقد استولى عليها. على الرغم من فشله في الاستيلاء على بلغراد التي تعد مفتاحاً لأوروبا الوسطى.
توجه السلطان محمد الفاتح، من جهة أخرى، إلى الأناضول لإزالة خطر إمارة بني قارامان، التي سعت للاجتماع تحت راية أوزون حسن، وذلك حتى لا تتكرر حادثة تيمورلنك للمرة الثانية. وقد تمكن من دفِع ذلك الخطر بالقضاء على البقية الباقية من تلك الإمارة، عام 879هـ (1474م).
أجرى السلطان محمد الفاتح العديد من الإصلاحات الإدارية، والمالية، والعسكرية، مما جعل من الدولة العثمانية دولة مركزية قوية. ظهرت آثارها في عهد ابنه بايزيد، الذي تولى حكم الدولة بعد وفاة والده، عام 886هـ ( 1481م). إلاّ أن أخاه الأمير جم نازعه العرش، ودارت الحروب بينهما، وبادر جم بالفرار إلى مصر بعد انهزام قواته أمام قوات أخيه، ثم اتصل بفرسان القديس يوحنا في جزيرة رودس عام 885هـ (1480م)، ولجأ إليهم، فأُلقي به في السجن إلى أن بيع للبابا أنوسنت الثامن. فلما مات هذا البابا ترك جم لخلفه إسكندر السادس، فلم يبق على جم طويلاً، بل دس السم له مقابل مبلغ مالي من السلطان بايزيد. الذي كان وجود الأمير جم بيد البابا في أوروبا قد جعله يتريث قليلاً فيما يزمع القيام به من فتوح. إلاّ أن وفاته عام 890هـ (1495م)، أعادت الحماسة إلى الفتوح في سياسة السلطان بايزيد الخارجية.
ومن جهة أخرى وجه السلطان بايزيد كل همه لإنشاء المباني العامة من مساجد، ومدارس، وعمارات، ودور الضيافة، والتكايا، والزوايا، والخانقاهات، والمستشفيات، والحمامات، والجسور. كما رمم شبكة الطرق، والجسور التي أقامها أسلافه، مستعيناً في ذلك بالعمال والصناع المهرة من اليونان والبلغار؛ فاستفادت الدولة، فيما بعد، من تلك الطرق في الأغراض العسكرية، وعلى وجه الخصوص في نقل الجنود وتسهيل حركتهم من مكان إلى آخر للدفاع عن الدولة.
نجح بايزيد من جهة ثالثة في صد غارات البولنديين الذين حاولوا غزو مولدافيا، ثم أتم الاستيلاء على إقليم البوسنة، واتخذه قاعدة لشن الهجوم على ممتلكات البندقية في دالماشيا. وعقد صلحاً مع المجر واتفق معهم على هدنة لمدة سبع سنوات. فنعمت البلاد في عهده بفترة من السلم والهدوء.
ثانياً: توسع الدولة العثمانية وازدهارها
1. ضم البلاد العربية
استفحل أمر الدولة الصفوية، بعد عهد السلطان بايزيد الثاني، الذي استخدم اللين مع الشاه إسماعيل الصفوي، على الرغم من نشاط الخير في نشر المذهب الشيعي بين القبائل التركية البدوية، وقتل الكثير من أهل السنة، بعد استيلائه على بغداد. وكان ذلك يحمل في طياته خطراً كبيراً على الدولة العثمانية، التي تزعمت أهل السنة في ذلك الوقت. إذ أن الشاه إسماعيل الصفوي، الذي جعل من التشيع سياسة لدولته ومذهباً لها، وجد له أعواناً كثيرين في الأناضول. وكان ذلك كفيلاً بأن يفتت وحدة الدولة العثمانية في الأناضول، على وجه الخصوص. فأجَّل السلطان سليم الأول فتوحاته، في أوروبا، ردحاً من الزمن، وتوجه بكل ما أوتي من قوة نحو الشرق، لوقف ذلك المد الشيعي، وتأديب المماليك، في مصر والشام، المتحالفين مع الصفويين، والعاجزين عن حماية الأماكن المقدسة. وكانت معركة جالديران، عام 920هـ (1514م)، انتصاراً باهراً للعثمانيين وهزيمة نكراء للصفويين، توغل الجيش العثماني بعدها في إيران حتى وصل إلى تبريز. وقد ثبّت ذلك الانتصار أقدام العثمانيين في الأناضول، وحسنت من صورتهم أمام العالم الإسلامي. غير أن ذلك النصر لم يكن ليكتمل ما لم تتم إزالة التهديدات البرتغالية للبحر الأحمر والأماكن المقدسة، في وقت استغاث فيه أهالي المنطقة بالعثمانيين، إزاء عجز المماليك عن الدفاع عنها، إضافة إلى إيواء المماليك للثائرين على السلاطين العثمانيين، وتحالفهم مع الصفويين ضد العثمانيين.
توجّه السلطان سليم الثاني إلى سوريا، ووقعت بينه وبين الغوري المملوكي معركة، بالقرب من حلب، عند مرج دابق، عام 922هـ (1516م)، ومني الغوري بالهزيمة، وسقوط قتيلاً، ودخل السلطان سليم الأول مدينة دمشق، وضُمت الأراضي السورية إلى الدولة العثمانية. ثم توجه السلطان سليم إلى القاهرة، وانتصر في معركة الريدانية، بالقرب منها، في عام 923هـ (بدايات عام 1517م). وبذلك بدأ عهد جديد في تاريخ العثمانيين، اكتملت فيه سيطرتهم على العالم العربي، والتي استمرت أربعة قرون. وأعلن بذلك العثمانيون حمايتهم للأماكن المقدسة، وجعل البحر الأحمر بحيرة إسلامية.
2. مسألة انتقال الخلافة إلى العثمانيين
هناك من المؤرخين من يرى عدم شرعية انتقال الخلافة إلى العثمانيين، ويستنكر حصول شيء من هذا القبيل، غير أن هناك من الباحثين من يذكر أن الخلافة انتقلت إلى العثمانيين عندما تنازل عنها الخليفة المتوكل العباسي، للسلطان سليم الأول، في احتفال أقيم بهذه المناسبة. وسلَّمه الآثار النبوية الشريفة. ومن ذلك التاريخ صار كل سلطان عثماني أميراً للمؤمنين، وخليفة لرسول رب العالمين اسماً وفعلاً.
ودعم حصول السلطان سليم الأول على منصب الخلافة مركزه في العالم الإسلامي. وأصبح استخدام العثمانيين لهذا اللقب الديني يعني المسؤولية عن الأماكن المقدسة وعن حماية العالم الإسلامي، ضد أي اعتداء على بقعة من بقاعه. وتعلق سلاطين الدولة العثمانية بلقب الخلافة في تلك العصور، التي تلت عصر السلطان سليم الأول، وتشبثوا بدلالاته الدينية والدنيوية.
3. أوج القوة والتوسع
أجرى السلطان سليم الأول بعض الإصلاحات التعليمية، والإدارية، في إستانبول، بعد عودته من مصر، ونظم أمور الجيش. كما أنشأ مرسىً كبيراً في خليج إستانبول، بغية صناعة السفن الحربية الكبيرة ومواجهة السفن البرتغالية والحد من خطرها وأضرارها في العالم العربي. وبفضل الجهود التي بذلت في هذا الصدد، فقد أضحى للعثمانيين أسطول بحري متميز.
توجه السلطان سليم، عقب تجهيزه الأسطول، إلى أدرنه. وعلى الرغم من عدم تحديد المكان، الذي كان يزمع فتحه، فقد ذكر أنه كان يود القيام بحملة على المجر، وقيل إنه كان يستعد لملاقاة الحملة الصليبية البحرية. ومهما يكن من أمر، فإنه لم يتسن له رؤية ثمار ذلك الأسطول؛ إذ وافته المنية قبل أن يصل إلى أدرنة، في قرية جورلو، وذلك عام 927هـ (1520م).
لما انتقل الحكم إلى ابنه السلطان سليمان القانوني، كانت الدولة العثمانية قد وصلت إلى أوج قوتها واتساعها؛ حيث قام في بداية حكمه بإجراء الإصلاحات الداخلية، ووضع الأنظمة المقننة، وأظهر الحزم في تنفيذ القوانين، وحماية الحقوق، وإعطاء مصطلح العدالة طابعه المميز. ثم توجَّه، عام 928هـ (1521م)، صوب أوروبا، لاستئناف الفتوحات، فاستولى على بلغراد، وهو في طريقه إلى المجر، وفتح جزيرة رودس، عام 929هـ (1522م)، وغزا المجر بقوة، قوامها مائة ألف مقاتل، عام 933هـ (1526م)، وفتح بودابست ثم المجر، التي ظلت ولاية عثمانية لمدة مائة وأربعين عاماً. ثم زحف السلطان سليمان، في عام 936هـ (1529م)، بجيش، قوامه ربع مليون جندي، إلى فيينا، إلاّ أنها قاومت مقاومة شديدة، وكرر السلطان محاولته، بعد ثلاث سنوات، وصمدن في مقاومتها مرة أخرى، ثم وقع الصلح بين الطرفين في إستانبول، عام 940هـ (1541م). سرعان ما استأنف الحرب من جديد بعد عام واحد، واستطاع السلطان سلميان، خلال تلك الفترة، أن يهزم النمساويين، وأن يضم المجر إلى أملاك الدولة العثمانية نهائياً، وأن يحصل من النمسا على جزية سنوية لمدة خمس سنوات.
وهكذا، سار السلطان سليمان القانوني من فتح إلى فتح، ومن غرب إلى شرق، وفتح جنوده مدينة بغداد، عام 941هـ (1534م)، ودخل الجيش العثماني مدينة تبريز للمرة الثانية، وجرت اتصالات مع ملك فرنسا، كما فُتح إقليما الجزائر وتونس، عام 942هـ (1535م). وفُتِحت كذلك في هذا العهد عدن وزبيد، عام 945هـ (1538م)، ثم استولى على البصرة، ومسقط، وهرمز، وامتد نفوذ العثمانيين إلى الأحساء، عام 963هـ (1555م)، وتمكن العثمانيون من السيطرة على المواقع الإستراتيجية في كل من الخليج العربي والبحر الأحمر، مما نشط من الحركة التجارية في المنطقة، بعيداً عن أعمال القرصنة، التي كانت تقوم بها السفن البرتغالية، وفي الوقت نفسه وفروا الحماية اللازمة للأماكن الإسلامية المقدسة، وانفتحوا إلى المحيط الهندي.
واصل العثمانيون جهادهم في غربي البحر المتوسط ضد الصليبيين. وفي خلال سنوات قليلة، كانت أغلبية الموانىء، الممتدة من تونس إلى المغرب، قد ضمت أساطيل إسلامية أثارت الرعب في قلوب الأوروبيين. وكان دخول الأخوين الربانيين: عروج رئيس وخير الدين بارباروس في خدمة السلطان العثماني، قد زاد العثمانيين في البحر الأبيض قوة على قوة. حيث استولى القائد البحري خير الدين بارباروس، على كورون، وليبانتو، وتونس، وأغار على سواحل إيطاليا، وجزيرة صقلية، وتمكن من بسط النفوذ على غربي البحر المتوسط.
وهكذا، أقام السلطان سليمان القانوني، دولة مترامية الأطراف، امتدت من الشرق إلى الغرب، ومن الجنوب إلى الشمال، وأضاف إلى أملاك الدولة العثمانية العديد من البلاد والأراضي، التي لم يتسن لغيره السيطرة عليها، ولم يصل إلى ذلك سلطان قبله ولا بعده. فقد ألحق الكثير من البلاد بالدولة العثمانية، ومنها المجر، وأردل، وطرابلس الغرب، والجزائر، والعراق، ورودس، ومعظم أنحاء كردستان، وقسم من جورجيا، وجزر بحر إيجة، وبلغراد، وجزيرة جربة (في تونس).
4. فتح جزيرة قبرص وسيطرة البحرية العثمانية على البحر الأبيض
افتقدت الدولة العثمانية، في عهود خلفاء السلطان سليمان، سياسته، الرامية إلى التركيز على الفتوحات، سواء في الشرق أو في الغرب. وظهر نوع من الفتور والضعف في أركان الدولة، ولا سيما بعد أن تخلى السلاطين عن الاشتراك بأنفسهم في الحروب. وبقيت المشروعات، التي تقدم بها الوزير الأعظم، صقوللي محمد باشا، حبراً على ورق. وكانت تلك المشروعات تحوي: افتتاح قناة السويس، بغية اتباع سياسة أكثر فعالية في المحيط الهندي؛ ومنع النفوذ الروسي، الذي بدأ يكتسب أهمية تجارية، واقتصادية، وسياسية، بعد استيلائهم على قازان وأستراخان؛ وتوثيق العلاقات مع المسلمين في آسيا الوسطى.
والحقيقة إن السبب، الذي دفع بالعثمانيين إلى تأخير الشروع في تلك الخطط، هو تركيز جهودهم على فتح جزيرة قبرص. إذ إنها كانت حصناً منيعاً، ساهم في عرقلة التجارة البحرية بين إستانبول ومصر. وكانت قبرص يحتلها أهل البندقية، الذين دأبوا على مهاجمة السفن التجارية وقوافل الحجاج المسلمين. وبعد صدور فتوى شيخ الإسلام، عام 975هـ (1567م)، بضرورة فتح هذه الجزيرة، شرعت الدولة العثمانية بكل ما أوتيت من قوة في فتحها. وتمكنت، خلال عامي 978 ـ 979هـ (1570 ـ 1571م)، من دخولها. وعلى الرغم من هزيمة الأسطول العثماني انهزم في لبانتو (اينة باختي)، أمام أسطول دول الحلف الصليبي، عام 979هـ (20 مايو 1571م). إلاّ أن جهود العثمانيين ومثارتهم لطرد أساطيل الأعداء من مياه مودون، ونافارين، بعد ذلك بسنة واحدة، قد قضى على آما الصليبين، ولا سيما الأسبان، في البحر المتوسط. كما أن اكتمال فتح تونس، عام 982هـ (1574م)، أدى إلى هيمنة البحرية العثمانية على البحر المتوسط.
كان هذا أقصى ما وصلت إليه الدولة العثمانية من القوة، والنفوذ، والانتشار. ولم يزد عصر القوة هذا عن نصف قرن كثيراً، ولم يشمل سوى عهد السلطان سليم الأول وابنه سليمان القانوني. وجاء عصر الضعف بعدهما مباشرة. وبدأ الخط البياني للخلافة الإسلامية بعدهما في الهبوط باستمرار، وإن كان يتوقف هذا الهبوط، أو يتوازن في بعض المراحل لقوة شخصية بعض الخلفاء أو لهمة حاشيتهم، وخاصة الصدور العظام.
أولاً: نشأة الدولة العثمانية
تعد الدولة العثمانية أطول الدول الإسلامية عهداً؛ فقد عاشت 661 سنة، وأطولها فترة في مراحل نشأتها وتكونها ثم انحدارها. وهي الدولة الإسلامية الوحيدة التي تمكنت من فتح القسطنطينية، والهيمنة على أجزاء شاسعة من أوروبا وآسيا وأفريقيا، في وقت واحد. وظلت لعدة قرون قائدة العالم الإسلامي، والممثلة له. توافقت نشأتها مع عصر تطور النهضة في أوروبا، واتجاه مؤسساتها الناشئة إلى حركة الاستعمار في زمن الانتقال من القرون الوسطى إلى العصور الحديثة. وأخيراً، فقد ظلت دوماً تقوم على ثلاثة بحار هامة، هي البحر المتوسط والبحر الأسود والبحر الأحمر. وقد توالى على عرش السلطة فيها ستة وثلاثون سلطاناً، من سلالة واحدة، تكرر بعضهم مرتين وبعضهم ثلاث مرات.
1. تأسيس الدولة العثمانية
لم يبرز للعثمانيين وجود تاريخي قبل القرن السابع الهجري/12م؛ ولذلك نسجت حول أصلهم وأوائلهم الكثير من الأساطير حسب الأهواء والظنون.
تسبب الغزو المغولي في هجرة كثير من القبائل التركية من وسط آسيا إلى الأناضول، وتعاظمت هجراتهم بعد انتصار السلاجقة على البيزنطيين في معركة (ملاذكرت) عام 1071م.
وتُنسب الدولة العثمانية إلى مؤسسها عثمان بن أرطغرل، الذي ولد عام 656هـ (1258م)، وتوفي عام 726هـ (1326م). و هو إلى عشيرة قايي، من قبيلة الغز (الأغوز) التركية. هاجر جده سليمان شاه، أمير عشيرة قايي، مع عشيرته من موطنه الأصلي، في آسيا الوسطى، ليستقر في الأناضول، في كنف دولة سلاجقة الروم، حوالي عام 618 هـ (1123م)، وظل يتنقل بهم من منطقة أخلاط، ومنها إلى أرضروم، ثم إلى أماسية في الأناضول. ثم انحدر بهم إلي حوض الفرات، حتى شرقي حلب. ولكنه غرق أثناء عبور النهر، ودُفن في قلعة جعبر، داخل الحدود السورية، ولا يزال قبره هناك إلى اليوم.
تولى زعامة العشيرة بعده ابنه أرطغرلبن سبيمان؛ فتحرك بها، شمالاً مرة أخرى إلى الأناضول. وشارك السلطان السلجوقي، علاء الدين كيقباد الأول، في حروبه ضد المغول وأبلى هو رجاله بلاءً حسناً؛ فأقطعه السلطان علاء الدين السلجوقي منطقة قراجة طاغ القريبة من أنقرة عام 628هـ (1133م). ويقال أنه أقطعه كذلك بلدتي سوغود ودومانيج، على الحدود مع البيزنطيين، في غربي الأناضول. ومنحه لقب (حارس الحدود).
توفي أرطغرل في بلدة سوغود، عام680هـ (1281م)، فتولى بعده ولده عثمان، سيداً على عشيرته وحاكماً للمقاطعة. وأخذ يشن الغارات والحملات الهجومية على البيزنطيين، ويكسب منهم قلاعاً وقرى ويضمها، لحساب الدولة السلجوقية. ومنحه السلطان السلجوقي علاء الدين كيقباد الثالث جهات إسكي شهر وإينونو، عام 1289م.
حاصر عثمان مدينة بورصة، المعروفة في غرب الأناضول، في عام 1314م، ولكنه لم يتمكن من فتحها.
وتوسعت منطقة نفوذ عثمان أو إمارته، فشملت مناطق سوغود، ودومانيج، وإينه كول، ويني شهر، وإن حصار، وقويون حصار، وكوبري حصار، ويوند حصار. وجعل في عام 1300م، يني شهر مركزاً لتلك الإمارة.
وفد على عثمان بن أرطغرل كثير من علماء الدولة السلجوقية، التي كانت في طريقها إلى الاضمحلال، وأقبل عليه أمراؤها وأعيانها، فدخلوا تحت حمايته.
يُرجع كثيرٌ من الباحثين نشأة الدولة العثمانية إلى عام 699هـ (1299م)، عندما استقل الأمير عثمان بإمارته الصغيرة عن الدولة السلجوقية.
بينما يرجعها البعض الآخر إلى عام 708هـ (1308م)، عندما توفي آخر سلاطين سلاجقة الروم السلطان غياث الدين مسعود الثالث، حيث كانت الإمارة العثمانية تابعة للدولة السلجوقية قبل ذلك.
ومع أنّ عثمان بن أرطغرل لم يلقّب بالسلطان أو الخان إلاّ بعد وفاته، إلا أنه يعد المؤسس الأول للأسرة. وقد حكم 45 عاماً، واستطاع توسيع مملكته من 4800 كم2، عند توليه الإمارة بعد والده أرطغرل، عام 681هـ (1281م)، إلى 16 ألف كم2، حين سلمها لولده أورخان، عام 726هـ (1326م) .
اتخذ أورخان بن عثمان (الذي ولد عام 1281م)، مدينة بورصة، الواقعة في أقصى غرب الأناضول، عاصمة لملكه، وقاعدة لتحركاته، بعد أن تيسر له فتحها قبيل وفاة والده، عام 726هـ (1326م). ثم فتح إزمير عام 1327م، وطاوشانلي في عام 1330م. واستطاع بذلك أن يفرض على الإمارات السلجوقية المجاورة، الاعتراف الفعلي بحكمه، وبأنه وريث العرش السلجوقي.
ومما زاد من شهرته، تمكنه من هزيمة الامبراطور البيزنطي، الذي حاول استعادة مدينة إزنيق من العثمانيين، عام 732هـ (1331م). وقد بدأ السلطان أورخان، بعد ذلك، باتباع سياسة متسمة بالحكمة، في التعامل مع البيزنطيين، وتحرص على عدم البدء بالاعتداء، مع محاولة الوصول إلى البحار المفتوحة والمضايق.
وقد توالت الفتوحات، طيلة حكم السلطان أورخان، الذي يعد أول أمير عثماني تسمى بلقب السلطان. وفي عام 736هـ (1335م)، كوّن جيشاً منظماً، ومدرباً أحسن تدريب. وانضمت بعض الإمارات السلجوقية إلى الدولة العثمانية، التي وصلت حدودها إلى البحر، بعد أن استولت على أسكودار، وهي الضفة الآسيوية من مدينة إستانبول. وفي الوقت نفسه، توسعت الدولة في الجانب الشرقي من البلاد، ففتحت مدينة أنقرة، عام 756هـ (1354م).
سنّت الدولة، في فترة حكم السلطان أورخان، وبإشارة من الوزير قره خليل جاندارلي، قانوناً يقضي بتشكيل جيش سمي "الإنكشارية"، وبمقتضى هذا القانون يؤخذ بعض أولاد النصارى، ويُعنى بتربيتهم، وتهذيبهم تهذيباً إسلامياً، حتى إذا بلغوا سن التجنيد، أُرسلوا إلى الثكنات العسكرية في العاصمة؛ ليتولوا الدفاع عن أراضي الدولة دفاعاً مستميتاً.
كما وضعت تنظيمات إدارية ومالية، في عهد السلطان أورخان، أصبحت قاعدة، تركن إليها الدولة في السنوات التالية، مثل النظام الخاص بإقطاع الأراضي الأميرية، وكيفية تقسيمها على المشاركين في الحرب، وتشكيل الوزارة، وغيرها من الأنظمة، التي استقرت قواعد الدولة عليها.
2. الفتوح العثمانية في أوربا
كانت الدولة البيزنطية، هي العدو الرئيسي للعثمانيين، وكانت تتحيَّن الفرص للإيقاع بهم. واتحد قيصر روسيا مع أهالي البندقية، الذين كانوا يهاجمون حدود الدولة العثمانية من جهة البحر في أغلب الأحيان. أصدر السلطان أورخان أمره لولده الأمير سليمان، بالاستعداد، والزحف إلى بلاد الرومَلي، وهي الجزء الأوروبي من الدولة البيزنطية. فجهز الجيوش، وتقدم بها، عام 757هـ (1357م)، حتى وصل إلى مضيق الدردنيل، وعبر إلى ساحل الروملي. واستولى على قلعة جناق (جناق قلعة) سنة 758هـ (1357م). وعُدّ ذلك العبور بداية التاريخ البحري للدولة العثمانية. وتوالت فتوحات الأمير سليمان بن أورخان وجنوده في بلاد الروملي، ونجح في إخضاع البلاد القريبة من غاليبولي.
وعلى الرغم من اهتمام الدول الأوروبية بهذا الفتح العثماني، ومراقبتها لتحركاته عن كثب، ومحاولتها مواجهة هذه القوة الجديدة، التي بلغت قواتها المحتشدة في غاليبولي عشرين ألف مقاتل؛ إلا أن تلك الدول بسبب النزاعات الداخلية بين دول البلقان، انصرفت عن اتخاذ إجراءات مناسبة. وقد اتبعت الدولة العثمانية في الأراضي المفتوحة حديثاً، سياسة التعامل بالحسنى مع الأهالي، ونقلت آلاف المسلمين من الأناضول إلى تلك المناطق.
اتسمت فترة حكم أورخان بأمرين:
أولهما: اتساع الفتوحات العثمانية في عهده.
ثانيهما: تنظيم الحكم في الدولة، بعد اتساع رقعتها. وقد ساعد هذا التنظيم على استقرار الدولة وتوسعها.
غير أن الوفاة المفاجئة، للأمير سليمان بن أورخان، عام 761هـ (1360م)، بعد أن حقق فتوحات كبيرة في البلقان، أثّرت على والده السلطان أورخان، فتوفي بعده بفترة وجيزة. وقد أدى ذلك إلى توقف حركة الفتوحات، مدّة من الزمن؛ إذ أن الدولة العثمانية فقدت قائداً باسلاً من قوادها، ثم فقدت سلطاناً قديراً في إدارة شؤون بلاده. وكان ذلك إيذاناً باستفادة الدول الأوروبية من هذا الوضع، واستعادة بعض المدن والقلاع التي استولى عليها العثمانيون.
3. فتح أدرنة
لما انتقل العثمانيون إلى البلقان، وفتحوا بعض أجزائها، أحسوا بالأهمية الإستراتيجية لمدينة أدرنة. فحاول السلطان مراد الأول، الذي انتقل إليه الحكم العثماني بعد والده ، السلطان أورخان، عام 761هـ (1360م)، الوصول إلى هذه المدينة. وقد تحقق له فتحها، عام 764هـ (1363م)، بعد عدة معارك، مستفيداً من التمزق السلافي في البلقان. غير أن السلطان مراداً لم يكتف بهذا الفتح، فاستولى على مدينتي: فليبة، وكمولجينة، وبعض المدن المجاورة، حتى يقطع خطوط الاتصال بين صرب مقدونيا، وبيزنطة، وبلغاريا. وعَمِل تدبيراً احتياطياً آخر بأن نقل عاصمة الدولة العثمانية من بورصا إلى أدرنة، عام 768هـ (1365م). وسرعان ما شهدت المدينة حركة عمرانية دؤوبة، تمثلت في بناء المساجد الجامعة، والمدارس، وتشييد المؤسسات الاجتماعية، والإدارات الحكومية، والمعاهد العسكرية.
وقد استهدف السلطان مراد من هذه النقلة:
أ. استغلال مناعة الاستحكامات الحربية للمدينة، وقربها من مسرح العمليات العسكرية.
ب. توطيد أقدام العثمانيين في قارة أوروبا.
ج. جعل المدينة مركزاً يجمع فيه أبناء النصارى لتجنيدهم، وذلك بفضل موقعها الجغرافي، وسط بلاد يدين أهلها بالنصرانية. وبموجب النصيحة، التي أسداها للسلطان كل من: قاضي الجيوش، في الدولة العثمانية، قره خليل جاندارلي، والشيخ (المُلاّ) رستم، فقد تقرر تحصيل 125 آقجة[1]، للدولة، عن كل أسير حرب، يقع في يد الجنود العثمانيين، أو أن يُضم خُمس الأسرى للتجنيد. وقد أُطلق على هذه الضريبة (رسمِ بنجيك)، أي الخُمُس.
ونظراً إلى اتساع نطاق الفتوحات، فقد أُنشأت، في الدولة، في ذلك العهد، وظيفة (قاضي عسكر)، وهي أعلى مرتبة دينية وعلمية في الدولة العثمانية، وتختص بالنظر في المسائل الشرعية لأفراد الجيش. ويرافق قاضي العسكر السلطان في غزواته. وقد عُين لهذا المنصب لأول مرة قاضي بورصة، قره خليل أفندي جاندارلي.
وفي الوقت الذي ازداد فيه النفوذ العثماني، وتوسعت رقعة أراضي الدولة، وانضمت الإمارات التركية إلى الدولة العثمانية، الواحدة تلو الأخرى، جهَّز الصرب حملة صليبية جديدة، بقيادة حاكم صربيا، لازار، ضد العثمانيين، شارك فيها كل من أمراء المجر، وبولونيا، ورومانيا، ومولدافيا، وبلغاريا. والتقى السلطان مراد الأول وابناه العدو، في صحراء كوسوفا، عام 792هـ (20 يونيه 1389م). ودارت المعركة حوالي ثماني ساعات، تغلب فيها العثمانيون على خصومهم. وبعد انتهاء المعركة، وبينما كان السلطان يتفقد ميدان القتال، اقترب منه أمير صربي جريح، بحجة أن لديه ما يعرضه عليه، وطعنه بخنجر في بطنه، فمات السلطان مراد الأول على الفور. وانتقلت سدة الحكم إلى ابنه بايزيد، الذي توجه إلى بورصة، ومعه جثمان والده، فدفنه بها.
أدخل انتصار قوصوه( أو كوسوفا) الساحق البلقان تحت الحكم العثماني الإسلامي، لمدة خمسمائة سنة. وقد بلغت مساحة الدولة العثمانية، عند وفاة السلطان مراد، 500.000 كم2 تقريباً (291.000 كم2 في البلقان، و 208.000 كم2 في الأناضول). وبذلك تضاعفت مساحة الدولة، التي خلفها السلطان أورخان، خمسة أضعاف، خلال 27 سنة.
وكان من أهم نتائج معركة كوسوفا ما يلي:
أ. انتشار الإسلام بين الصرب.
ب. دخول بلاد الصرب تحت السيطرة العثمانية، حتى القرن التاسع عشر الميلادي.
4. معركة أنقرة مع التتار
تولى السلطان بايزيد الأول الحكم، بعد استشهاد والده، عام 792هـ (1388م). وكان متحمساً لمواصلة الفتوحات التي بدأها والده، فقضى على آخر إمارة بيزنطية في الأناضول، وهي مدينة آلا شهر. كما اكتسح بلغاريا عام 797هـ (1393م)، مما أدى إلى تكتل الدول الأوروبية المسيحية في وجهه في حملة صليبية، غير أنه استطاع أن يصدها، وأن يخضع البلاد البلقانية للدولة العثمانية، ويوطد أقدام العثمانيين في البلقان. إلاّ أن إغارات القائد التتري تيمورلنك، على أراضي الدولة العثمانية، في تلك الفترة، حوَّلت أنظار السلطان بايزيد إلى الدفاع عن الأناضول، بدلاً من التوسع في أوروبا، فاستعد السلطان لملاقاة تيمورلنك، وجمع رجاله، وتوجه بهم نحو أنقرة، حيث نصب معسكره قريباً منها. ولما استعد الطرفان للقتال، انحاز جنود ولايات آيدين، ومنتشة، وصاروخان، وعددهم خمسون ألفاً، إلى جانب تيمورلنك، لوجود أمرائهم الأصليين، الذين استولى العثمانيون على بلادهم، في معيته؛ فضعفت بذلك قوة العثمانيين، ووقع الخلل في صفوفهم، ولم يبق لهم إلاّ الإنكشارية، وعددهم عشرة آلاف. ولما اشتعلت نيران الحرب، انهزم العثمانيون هزيمة نكراء، ووقع السلطان بايزيد مع ابنه أسيرين، في يد تيمورلنك، فأهانهما إهانة بالغة. وكانت تلك الهزيمة والإهانة، سبباً في تراكم الهموم على السلطان بايزيد، فأصابه مرض توفي به في عام 806هـ (1403م).
يقول المؤرخ أحمد جودت باشا: كان ذلك القرن هو الدور الأول للدولة العثمانية. فإنها في تلك المدة، أي في ظرف مائة سنة، عظم أمرها، وقويت أركانها، وصارت دولة عظيمة بعد أن كانت إمارة صغيرة.
5. عهد الفوضى
عقب وفاة السلطان بايزيد الأول، وانسحاب تيمورلنك بقواته من الأناضول نشب الخلاف بين أبناء بايزيد وتطور إلى حرب أهلية، وسميت تلك الفترة في التاريخ التركي "عهد الفترة" أي الانقطاع. واستمرت هذه الحرب مدة عشر سنوات (806-816هـ/ 1403-1413م)، ولم تنته إلاّ بعد أن وحد الأمير محمد جلبي بن بايزيد أطراف الدولة، واستتب له الحكم، وحمل لقب السلطان محمد الأول.
وأسدى السلطان محمد الأول، إلى الدولة خدمة جليلة؛ إذ أزال آثار معركة أنقرة، وعمل على تنظيم الدولة، فمهّد الطريق أمام خلفائه، ليتابعوا سياسة التوسع الإقليمي من جديد، سواء في أوروبا أو في غيرها. كما شنّ الغارات المتوالية على بلاد أردل والمجر، وقاد جيوشه فتمكن من الاستيلاء على يركوي، ودوبروجه. وقد أدت تلك الغارات إلى دخول الإقطاعيين، في بلاد البوسنة، تحت الحكم العثماني (823-826هـ/1420-1423م). ثم رجع السلطان محمد الأول إلى الأناضول. وراح يوجه غاراته فيما بعد نحو الشرق؛ بسبب التهديدات التي تتعرض لها الأراضي العثمانية، من جانب الصفويين. فاستطاع الاستيلاء على الأراضي التي تحكمها أسرة جاندار أغلو، وهي أرضروم وأرزنجان، وشَبِن قاراحصار، بعد أن قضى على إمارتهم.
انتقلت الدولة العثمانية إلى مرحلة جديدة، بعد فترة حكم السلطان محمد الأول، الذي لم يَدُمْ طويلاً؛ حيث قام ابنه السلطان مراد الثاني بأعمال، اتسمت بالحفاظ على توحيد أراضي الدولة، والقضاء على العقبات، التي تثيرها الإمارات التركية في الأناضول، ومن ثم تصفيتها لصالح الدولة العثمانية. والعمل على إيجاد توازن بين مختلف القوى السياسية والاجتماعية في الأناضول.
6. فتح إستانبول
انتقل الحكم العثماني إلى السلطان محمد الفاتح، عام 855هـ (1451م). وكان فتح إستانبول يراود أحلامه، حتى تكون أملاك الدولة متصلة، لا يتخللها عدو مهاجم، وحتى يتسنى له، منذ الأيام الأولى من حكمه، حسم مشكلة القسطنطينية، التي كانت تمثل وكراً للمؤامرات ضد الدولة العثمانية. غير أنه قبل أن يفتحها أراد أن يحصن البوسفور، حتى لا يأتي لها مدد من مملكة طرابزون. وفي الوقت نفسه، كان عليه إتمام عملية الفتح، قبل وصول المساعدات من الغرب وتوحد قوات الدول الصليبية. بدأ السلطان محمد الفاتح بتنفيذ خططه العسكرية، على الرغم من معارضة خليل باشا جاندارلي. واستمر الحصار ثلاثة وخمسين يوماً. تيسر بعدها فتح المدينة عام 857هـ (1453م)، التي أصبحت عاصمة للدولة العثمانية إلى سقوطها في عام 1342هـ (1922م).
وقد ابتدأ بذلك الفتح العظيم عصر جديد؛ حيث أصبحت الدولة العثمانية دولة عالمية، وكان ذلك الفتح بداية للقيام بحروب طويلة، شنها السلطان محمد الفاتح على بلاد الصرب، والبوسنة، والهرسك، والمورة، وألبانيا، وجمهوريتي جنوا والبندقية، ومملكة نابولي. وقد استولى عليها. على الرغم من فشله في الاستيلاء على بلغراد التي تعد مفتاحاً لأوروبا الوسطى.
توجه السلطان محمد الفاتح، من جهة أخرى، إلى الأناضول لإزالة خطر إمارة بني قارامان، التي سعت للاجتماع تحت راية أوزون حسن، وذلك حتى لا تتكرر حادثة تيمورلنك للمرة الثانية. وقد تمكن من دفِع ذلك الخطر بالقضاء على البقية الباقية من تلك الإمارة، عام 879هـ (1474م).
أجرى السلطان محمد الفاتح العديد من الإصلاحات الإدارية، والمالية، والعسكرية، مما جعل من الدولة العثمانية دولة مركزية قوية. ظهرت آثارها في عهد ابنه بايزيد، الذي تولى حكم الدولة بعد وفاة والده، عام 886هـ ( 1481م). إلاّ أن أخاه الأمير جم نازعه العرش، ودارت الحروب بينهما، وبادر جم بالفرار إلى مصر بعد انهزام قواته أمام قوات أخيه، ثم اتصل بفرسان القديس يوحنا في جزيرة رودس عام 885هـ (1480م)، ولجأ إليهم، فأُلقي به في السجن إلى أن بيع للبابا أنوسنت الثامن. فلما مات هذا البابا ترك جم لخلفه إسكندر السادس، فلم يبق على جم طويلاً، بل دس السم له مقابل مبلغ مالي من السلطان بايزيد. الذي كان وجود الأمير جم بيد البابا في أوروبا قد جعله يتريث قليلاً فيما يزمع القيام به من فتوح. إلاّ أن وفاته عام 890هـ (1495م)، أعادت الحماسة إلى الفتوح في سياسة السلطان بايزيد الخارجية.
ومن جهة أخرى وجه السلطان بايزيد كل همه لإنشاء المباني العامة من مساجد، ومدارس، وعمارات، ودور الضيافة، والتكايا، والزوايا، والخانقاهات، والمستشفيات، والحمامات، والجسور. كما رمم شبكة الطرق، والجسور التي أقامها أسلافه، مستعيناً في ذلك بالعمال والصناع المهرة من اليونان والبلغار؛ فاستفادت الدولة، فيما بعد، من تلك الطرق في الأغراض العسكرية، وعلى وجه الخصوص في نقل الجنود وتسهيل حركتهم من مكان إلى آخر للدفاع عن الدولة.
نجح بايزيد من جهة ثالثة في صد غارات البولنديين الذين حاولوا غزو مولدافيا، ثم أتم الاستيلاء على إقليم البوسنة، واتخذه قاعدة لشن الهجوم على ممتلكات البندقية في دالماشيا. وعقد صلحاً مع المجر واتفق معهم على هدنة لمدة سبع سنوات. فنعمت البلاد في عهده بفترة من السلم والهدوء.
ثانياً: توسع الدولة العثمانية وازدهارها
1. ضم البلاد العربية
استفحل أمر الدولة الصفوية، بعد عهد السلطان بايزيد الثاني، الذي استخدم اللين مع الشاه إسماعيل الصفوي، على الرغم من نشاط الخير في نشر المذهب الشيعي بين القبائل التركية البدوية، وقتل الكثير من أهل السنة، بعد استيلائه على بغداد. وكان ذلك يحمل في طياته خطراً كبيراً على الدولة العثمانية، التي تزعمت أهل السنة في ذلك الوقت. إذ أن الشاه إسماعيل الصفوي، الذي جعل من التشيع سياسة لدولته ومذهباً لها، وجد له أعواناً كثيرين في الأناضول. وكان ذلك كفيلاً بأن يفتت وحدة الدولة العثمانية في الأناضول، على وجه الخصوص. فأجَّل السلطان سليم الأول فتوحاته، في أوروبا، ردحاً من الزمن، وتوجه بكل ما أوتي من قوة نحو الشرق، لوقف ذلك المد الشيعي، وتأديب المماليك، في مصر والشام، المتحالفين مع الصفويين، والعاجزين عن حماية الأماكن المقدسة. وكانت معركة جالديران، عام 920هـ (1514م)، انتصاراً باهراً للعثمانيين وهزيمة نكراء للصفويين، توغل الجيش العثماني بعدها في إيران حتى وصل إلى تبريز. وقد ثبّت ذلك الانتصار أقدام العثمانيين في الأناضول، وحسنت من صورتهم أمام العالم الإسلامي. غير أن ذلك النصر لم يكن ليكتمل ما لم تتم إزالة التهديدات البرتغالية للبحر الأحمر والأماكن المقدسة، في وقت استغاث فيه أهالي المنطقة بالعثمانيين، إزاء عجز المماليك عن الدفاع عنها، إضافة إلى إيواء المماليك للثائرين على السلاطين العثمانيين، وتحالفهم مع الصفويين ضد العثمانيين.
توجّه السلطان سليم الثاني إلى سوريا، ووقعت بينه وبين الغوري المملوكي معركة، بالقرب من حلب، عند مرج دابق، عام 922هـ (1516م)، ومني الغوري بالهزيمة، وسقوط قتيلاً، ودخل السلطان سليم الأول مدينة دمشق، وضُمت الأراضي السورية إلى الدولة العثمانية. ثم توجه السلطان سليم إلى القاهرة، وانتصر في معركة الريدانية، بالقرب منها، في عام 923هـ (بدايات عام 1517م). وبذلك بدأ عهد جديد في تاريخ العثمانيين، اكتملت فيه سيطرتهم على العالم العربي، والتي استمرت أربعة قرون. وأعلن بذلك العثمانيون حمايتهم للأماكن المقدسة، وجعل البحر الأحمر بحيرة إسلامية.
2. مسألة انتقال الخلافة إلى العثمانيين
هناك من المؤرخين من يرى عدم شرعية انتقال الخلافة إلى العثمانيين، ويستنكر حصول شيء من هذا القبيل، غير أن هناك من الباحثين من يذكر أن الخلافة انتقلت إلى العثمانيين عندما تنازل عنها الخليفة المتوكل العباسي، للسلطان سليم الأول، في احتفال أقيم بهذه المناسبة. وسلَّمه الآثار النبوية الشريفة. ومن ذلك التاريخ صار كل سلطان عثماني أميراً للمؤمنين، وخليفة لرسول رب العالمين اسماً وفعلاً.
ودعم حصول السلطان سليم الأول على منصب الخلافة مركزه في العالم الإسلامي. وأصبح استخدام العثمانيين لهذا اللقب الديني يعني المسؤولية عن الأماكن المقدسة وعن حماية العالم الإسلامي، ضد أي اعتداء على بقعة من بقاعه. وتعلق سلاطين الدولة العثمانية بلقب الخلافة في تلك العصور، التي تلت عصر السلطان سليم الأول، وتشبثوا بدلالاته الدينية والدنيوية.
3. أوج القوة والتوسع
أجرى السلطان سليم الأول بعض الإصلاحات التعليمية، والإدارية، في إستانبول، بعد عودته من مصر، ونظم أمور الجيش. كما أنشأ مرسىً كبيراً في خليج إستانبول، بغية صناعة السفن الحربية الكبيرة ومواجهة السفن البرتغالية والحد من خطرها وأضرارها في العالم العربي. وبفضل الجهود التي بذلت في هذا الصدد، فقد أضحى للعثمانيين أسطول بحري متميز.
توجه السلطان سليم، عقب تجهيزه الأسطول، إلى أدرنه. وعلى الرغم من عدم تحديد المكان، الذي كان يزمع فتحه، فقد ذكر أنه كان يود القيام بحملة على المجر، وقيل إنه كان يستعد لملاقاة الحملة الصليبية البحرية. ومهما يكن من أمر، فإنه لم يتسن له رؤية ثمار ذلك الأسطول؛ إذ وافته المنية قبل أن يصل إلى أدرنة، في قرية جورلو، وذلك عام 927هـ (1520م).
لما انتقل الحكم إلى ابنه السلطان سليمان القانوني، كانت الدولة العثمانية قد وصلت إلى أوج قوتها واتساعها؛ حيث قام في بداية حكمه بإجراء الإصلاحات الداخلية، ووضع الأنظمة المقننة، وأظهر الحزم في تنفيذ القوانين، وحماية الحقوق، وإعطاء مصطلح العدالة طابعه المميز. ثم توجَّه، عام 928هـ (1521م)، صوب أوروبا، لاستئناف الفتوحات، فاستولى على بلغراد، وهو في طريقه إلى المجر، وفتح جزيرة رودس، عام 929هـ (1522م)، وغزا المجر بقوة، قوامها مائة ألف مقاتل، عام 933هـ (1526م)، وفتح بودابست ثم المجر، التي ظلت ولاية عثمانية لمدة مائة وأربعين عاماً. ثم زحف السلطان سليمان، في عام 936هـ (1529م)، بجيش، قوامه ربع مليون جندي، إلى فيينا، إلاّ أنها قاومت مقاومة شديدة، وكرر السلطان محاولته، بعد ثلاث سنوات، وصمدن في مقاومتها مرة أخرى، ثم وقع الصلح بين الطرفين في إستانبول، عام 940هـ (1541م). سرعان ما استأنف الحرب من جديد بعد عام واحد، واستطاع السلطان سلميان، خلال تلك الفترة، أن يهزم النمساويين، وأن يضم المجر إلى أملاك الدولة العثمانية نهائياً، وأن يحصل من النمسا على جزية سنوية لمدة خمس سنوات.
وهكذا، سار السلطان سليمان القانوني من فتح إلى فتح، ومن غرب إلى شرق، وفتح جنوده مدينة بغداد، عام 941هـ (1534م)، ودخل الجيش العثماني مدينة تبريز للمرة الثانية، وجرت اتصالات مع ملك فرنسا، كما فُتح إقليما الجزائر وتونس، عام 942هـ (1535م). وفُتِحت كذلك في هذا العهد عدن وزبيد، عام 945هـ (1538م)، ثم استولى على البصرة، ومسقط، وهرمز، وامتد نفوذ العثمانيين إلى الأحساء، عام 963هـ (1555م)، وتمكن العثمانيون من السيطرة على المواقع الإستراتيجية في كل من الخليج العربي والبحر الأحمر، مما نشط من الحركة التجارية في المنطقة، بعيداً عن أعمال القرصنة، التي كانت تقوم بها السفن البرتغالية، وفي الوقت نفسه وفروا الحماية اللازمة للأماكن الإسلامية المقدسة، وانفتحوا إلى المحيط الهندي.
واصل العثمانيون جهادهم في غربي البحر المتوسط ضد الصليبيين. وفي خلال سنوات قليلة، كانت أغلبية الموانىء، الممتدة من تونس إلى المغرب، قد ضمت أساطيل إسلامية أثارت الرعب في قلوب الأوروبيين. وكان دخول الأخوين الربانيين: عروج رئيس وخير الدين بارباروس في خدمة السلطان العثماني، قد زاد العثمانيين في البحر الأبيض قوة على قوة. حيث استولى القائد البحري خير الدين بارباروس، على كورون، وليبانتو، وتونس، وأغار على سواحل إيطاليا، وجزيرة صقلية، وتمكن من بسط النفوذ على غربي البحر المتوسط.
وهكذا، أقام السلطان سليمان القانوني، دولة مترامية الأطراف، امتدت من الشرق إلى الغرب، ومن الجنوب إلى الشمال، وأضاف إلى أملاك الدولة العثمانية العديد من البلاد والأراضي، التي لم يتسن لغيره السيطرة عليها، ولم يصل إلى ذلك سلطان قبله ولا بعده. فقد ألحق الكثير من البلاد بالدولة العثمانية، ومنها المجر، وأردل، وطرابلس الغرب، والجزائر، والعراق، ورودس، ومعظم أنحاء كردستان، وقسم من جورجيا، وجزر بحر إيجة، وبلغراد، وجزيرة جربة (في تونس).
4. فتح جزيرة قبرص وسيطرة البحرية العثمانية على البحر الأبيض
افتقدت الدولة العثمانية، في عهود خلفاء السلطان سليمان، سياسته، الرامية إلى التركيز على الفتوحات، سواء في الشرق أو في الغرب. وظهر نوع من الفتور والضعف في أركان الدولة، ولا سيما بعد أن تخلى السلاطين عن الاشتراك بأنفسهم في الحروب. وبقيت المشروعات، التي تقدم بها الوزير الأعظم، صقوللي محمد باشا، حبراً على ورق. وكانت تلك المشروعات تحوي: افتتاح قناة السويس، بغية اتباع سياسة أكثر فعالية في المحيط الهندي؛ ومنع النفوذ الروسي، الذي بدأ يكتسب أهمية تجارية، واقتصادية، وسياسية، بعد استيلائهم على قازان وأستراخان؛ وتوثيق العلاقات مع المسلمين في آسيا الوسطى.
والحقيقة إن السبب، الذي دفع بالعثمانيين إلى تأخير الشروع في تلك الخطط، هو تركيز جهودهم على فتح جزيرة قبرص. إذ إنها كانت حصناً منيعاً، ساهم في عرقلة التجارة البحرية بين إستانبول ومصر. وكانت قبرص يحتلها أهل البندقية، الذين دأبوا على مهاجمة السفن التجارية وقوافل الحجاج المسلمين. وبعد صدور فتوى شيخ الإسلام، عام 975هـ (1567م)، بضرورة فتح هذه الجزيرة، شرعت الدولة العثمانية بكل ما أوتيت من قوة في فتحها. وتمكنت، خلال عامي 978 ـ 979هـ (1570 ـ 1571م)، من دخولها. وعلى الرغم من هزيمة الأسطول العثماني انهزم في لبانتو (اينة باختي)، أمام أسطول دول الحلف الصليبي، عام 979هـ (20 مايو 1571م). إلاّ أن جهود العثمانيين ومثارتهم لطرد أساطيل الأعداء من مياه مودون، ونافارين، بعد ذلك بسنة واحدة، قد قضى على آما الصليبين، ولا سيما الأسبان، في البحر المتوسط. كما أن اكتمال فتح تونس، عام 982هـ (1574م)، أدى إلى هيمنة البحرية العثمانية على البحر المتوسط.
كان هذا أقصى ما وصلت إليه الدولة العثمانية من القوة، والنفوذ، والانتشار. ولم يزد عصر القوة هذا عن نصف قرن كثيراً، ولم يشمل سوى عهد السلطان سليم الأول وابنه سليمان القانوني. وجاء عصر الضعف بعدهما مباشرة. وبدأ الخط البياني للخلافة الإسلامية بعدهما في الهبوط باستمرار، وإن كان يتوقف هذا الهبوط، أو يتوازن في بعض المراحل لقوة شخصية بعض الخلفاء أو لهمة حاشيتهم، وخاصة الصدور العظام.