آراء ابن القيم حول الإعاقة
SeIfElLaH- مجلس المدراء
- الأوسمة :
عدد المساهمات : 4497
نقاط : 6387
تاريخ التسجيل : 22/03/2010
العمر : 48
- مساهمة رقم 1
آراء ابن القيم حول الإعاقة
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, الأول والآخر، والظاهر والباطن، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وآله أجمعين.
أما بعد:
فإن الله قد أنعم علينا بنعم عديدة، }وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا{([size=24][1])، ومن هذه النعم نعمة الإسلام، وكذلك نعمة العقل والإدراك، ونعمة السماع بالآذان، ونعمة الإبصار، ونعمة السير على الأقدام، ونعمة الصحة في الأبدان... وغيرها من النعم التي لا تعد ولا تحصى.[/size]
وقد كرم الله في الإسلام الإنسان السوي والمعاق، وأمر بالعدل والإحسان ومساعدة العاجزين، ورفع الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض، وجعل الفرق بين الناس بالتقوى، }إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ{([size=24][2])، وروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسامكم...»([3]).[/size]
وربما فقد الإنسان إحدى قدراته أو حواسه، ولكن هذا لا يقلل قيمته الاجتماعية، وإذا حرم الله عبده ممن إحدى حواسه؛ عوضه الله ببعض الرخص والتسهيلات، إن الإسلام لا يطلب من الأفراد نصيبا متساويا من العطاء، كما لا يعطيهم قدرا واحدا من الرعاية والاهتمام.
وقد اهتم العلماء المسلمون قديما وحديثا بالأحكام والرخص المترتبة على الإعاقة، وبالقضايا التي تعني هذه الفئة الغالية على نفوسنا، ومن هؤلاء العلماء الذين تطرقوا للقضايا الاجتماعية والأحكام الفقهية الخاصة بالمعاقين الإمام العلامة ابن القيم الجوزية.
وقد قمت في هذه الرسالة المتواضعة بجمع آراء ابن القيم حول الإعاقة بالاطلاع على كتب ابن القيم المطبوعة، واخترت منها ما هو مناسب لهذا الموضوع، ولم أحاول أن أتدخل في هذه الآراء، ولكن قمت بالتعليق على بعض النقاط في الهامش، وقمت كذلك بتخريج الأحاديث الموجودة في هذه النقول، وكذلك ترقيم الآيات.
ولكن قد يتساءل سائل: لماذا اخترت هذا الموضوع؟ وكذلك: لماذا اخترت ابن القيم بالذات؟
وأقول:
1- إن الإسلام اعتنى بالمعاق، وأن الإسلام سبق النظريات الحديثة في التطرق لهذا الموضوع، وإن بسط الله في العمر ونسأ في الأثر, بحثت -إن شاء الله- في هذا الموضوع بتوسع وعمق.
2- إن العلماء المسلمين –ومنهم ابن القيم- سبقوا علماء الغرب في معالجة القضايا التي تعني المعاق، ومنها الجوانب النفسية.
3- جدة الموضوع، حيث لم يسبق أن كُتِبَ فيه إلا ما ندر.
4- أهمية الموضوع الواقعية، وذلك لزيادة فئة المعاقين داخل المجتمعات وزيادة الاهتمام بهذه الفئة من قبل المختصين وأفراد المجتمع الآخرين.
لماذا ابن القيم؟
SeIfElLaH- مجلس المدراء
- الأوسمة :
عدد المساهمات : 4497
نقاط : 6387
تاريخ التسجيل : 22/03/2010
العمر : 48
- مساهمة رقم 2
رد: آراء ابن القيم حول الإعاقة
تعريف موجز بابن القيم([1]):
هو محمد بن أبي بكر بن أيوب، أبو عبد الله، شمس الدين الزرعي الدمشقي، المشهور بابن القيم الجوزية. ولد عام 691هـ، وتوفي عام 751هـ. من أبرز شيوخه شيخ الإسلام ابن تيمية. ألّف العديد من الكتب القيمة.
ولقد اخترته لأنه من أفضل العلماء الذين ناقشوا مثل هذه القضايا بعمق وتبحر.
وقد تميز ابن القيم بسعة علمه في التفسير والحديث واللغة العربية والفقه والمذاهب المختلفة، وقد ألّف العديد من الكتب للرد على المذاهب الضالة، وعندما تقرأ مثل هذه الكتب كأنك تقرأ كتب أدبية لحسن أسلوب عرضه وغزارة علمه وقدرته على ضرب الأمثلة المناسبة، والمطلع على كتب ابن القيم يلحظ أنه ناقش قضايا تربوية ونفسية ربما لازالت مثار جدل إلى اليوم.
وختاما أقول كما قال ابن القيم -رحمه الله-: "فهذه مقدمة اعتذار بين يدي القصور والتقصير من راكب هذا البحر الأعظم، والله عليم بمقاصد العباد ونياتهم، وهو أولى بالعذر والتجاوز"([2]).
والله الموفق وحده، وهو المستعان، وعليه التكلان.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]([1]) انظر: "طبقات الحنابلة"، و"شذرات الذهب"، و"البداية والنهاية"، و"الوافي بالوفيات".
SeIfElLaH- مجلس المدراء
- الأوسمة :
عدد المساهمات : 4497
نقاط : 6387
تاريخ التسجيل : 22/03/2010
العمر : 48
- مساهمة رقم 3
رد: آراء ابن القيم حول الإعاقة
تمهيـد
الإعاقة ابتلاء من الله -سبحانه وتعالى- يبتلي بها من يشاء من عباده.
إن عامة الناس يعتقدون أن المعاق هو الشخص المعاق حركيا، ولكن هذه نظرة مقصورة, حيث تتعدد الإعاقات: صمم، بكم، كف البصر، تخلف عقلي، إعاقة حركية وبدنية، اضطرابات سلوكية وانفعالية، صعوبة تعلم...
إننا عندما نتعامل مع المعاق فيجب أن يكون قدوتنا الرسول صلى الله عليه وسلم؛ قال تعالى: }لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا{([size=24][1]).[/size]
والمتأمل لسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم يجد الكثير من المبادئ والقيم المنطلقة من القرآن.
لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم أصدق الناس مع الناس وأرحم الناس بالناس.
ومن النماذج في سيرته العطرة أنه صلى الله عليه وسلم في العبادة والعمل الصالح كان يوصي كل فرد حسب طاقته وإمكاناته، لم يكن يأتي إلى إنسان عاجز أو مريض فيوصيه بالصيام أو الجهاد، ولكن كان يوصيه بذكر الله تعالى.
وفي "سنن الترمذي" عن عبد الله بن بسر -رضي الله عنه –وهو شيخ كبير مسن- قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت عليَّ, فأوصني. قال: «لا يزال لسانك رطبًا بذكر الله تعالى».
وهذا لأن الرجل يستطيع أن يذكر الله تعالى.
وجاءه رجل آخر، قال: يا رسول الله! أوصني. قال: «لا تغضب». قال: زدني. قال: «لا تغضب». قال: زدني. قال: «لا تغضب». وتبين أن ذلك الرجل كان يهلك عند الغضب؛ يشتم ويسب، فأوصاه عليه الصلاة والسلام بما يناسبه؛ قال: «لا تغضب».
فوصايا الرسول صلى الله عليه وسلم تناسب الناس كلاًّ حسب قدرته.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا أمً أحدكم؛ فليخفف؛ فإن فيهم الصغير والكبير والضعيف والمريض...»([size=24][2])؛ لأنه كان يعلم أن من ورائه الكبير والضعيف وذا الحاجة والعاجز... وهكذا كل وصاياه صلى الله عليه وسلم.[/size]
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]([2]) رواه: البخاري، ومسلم، واللفظ لمسلم. البخاري في (الأذان، 703)، ومسلم في (الصلاة، 467).
SeIfElLaH- مجلس المدراء
- الأوسمة :
عدد المساهمات : 4497
نقاط : 6387
تاريخ التسجيل : 22/03/2010
العمر : 48
- مساهمة رقم 4
رد: آراء ابن القيم حول الإعاقة
في الذكر الذي تحفظ به النعم وما يقال عند تجردها
قال الله -سبحانه وتعالى- في قصة الرجلين: }وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ{([1])؛فينبغي لمن دخل بستانه أو داره أو رأى في ماله وأهله ما يعجبه أن يبادر إلى هذه الكلمة؛ فإنه لا يرى فيه سوءا.
وعن أنس؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنعم الله على عبد نعمة في أهل ومال وولد، فقال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، فيرى فيها آفة دون الموت».
وعنه صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا رأى ما يسره؛ قال: «الحمد لله بنعمته تتم الصالحات». وإذا رأى ما يسوؤه؛ قال: «الحمد لله على كل حال»([2]).
فيما يقال عند رؤية أهل البلاء
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «من رأى مبتلى، فقال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلا؛ لم يصبه ذلك البلاء». وقال الترمذي: حديث حسن([3]).
من كتاب
الوابل الصيب من الكلم الطيب
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]([3]) قال العلماء: "ينبغي أن يقول هذا الذكر سرا بحيث يسمع نفسه ولا يسمعه المبتلى لئلا يتألم بذلك؛ إلا أن تكون بليته معصية؛ فلا بأس أن يسمعه ذلك إن لم يخف من ذلك مفسدة. والله أعلم".
SeIfElLaH- مجلس المدراء
- الأوسمة :
عدد المساهمات : 4497
نقاط : 6387
تاريخ التسجيل : 22/03/2010
العمر : 48
- مساهمة رقم 5
رد: آراء ابن القيم حول الإعاقة
الصبر([size=24][1]،[2]) وما ورد من نصوص عنه في السنة[/size]
في صحيح البخاري من حديث أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر عن ربنا -عز وجل- أنه قال: «إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه، ثم صبر؛ عوضته منها الجنة»؛ يريد: عينيه.
وعند الترمذي في الحديث: «إذا أخذت كريمتي عبدي في الدنيا؛ لم يكن له جزاء عندي إلا الجنة».
وفي الترمذي أيضا عن أبي هريرة -رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله -عز وجل-: من أذهبت حبيبتيه، فصبر، واحتسب؛ لم أرض له ثوابا دون الجنة».
وفي "سنن أبي داود" من حديث عبد الله بن عمر؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يرضى الله لعبده المؤمن إذا ذهب بصفيِّه من أهل الأرض واحتسبه بثواب دون الجنة».
وفي "صحيح البخاري" من حديث أبي هريرة؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله -عز وجل-: ما لعبدي المؤمن جزاء إذا قبضت صفيَّه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة».
وفي "صحيحه" أيضا عن عطاء بن أبي رباح؛ قال: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى. قال: هذه المرأة السوداء؛ أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! إني أصرع وإني أتكشف؛ فادع الله لي. قال: «إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله تعالى أن يعافيك». فقالت: أصبر. فقالت: إني أتكشف؛ فادع الله أن لا أتكشف. فدعا لها.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]([1]) عرف ابن القيم الصبر بأنه حبس النفس عن الجزع والتسخط، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن التشويش "مدارج السالكين"(ج1).
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]([2]) قسم ابن القيم الصبر إلى ثلاثة أنواع: صبر بالله، وصبر لله، وصبر مع الله.
فالأول: الاستعانة به ورؤيته أنه هو المصبّر.
والثاني: الصبر لله، وهو أن يكون الباعث له على الصبر محبة الله.
والثالث: الصبر مع الله، وهو دوران العبد مع مراد الله الديني منه.
"مدارج السالكين" (ج1).
SeIfElLaH- مجلس المدراء
- الأوسمة :
عدد المساهمات : 4497
نقاط : 6387
تاريخ التسجيل : 22/03/2010
العمر : 48
- مساهمة رقم 6
رد: آراء ابن القيم حول الإعاقة
في الذكر عند المصيبة
قال الله تعالى: }وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ{([1]).
ويذكر عن أبي هريرة؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليسترجع أحدكم في كل شيء، حتى في شسع نعله؛ فإنها من المصائب».
وقالت أم سلمة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من عبد تصيبه مصيبة، فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم! أجزني في مصيبتي، واخلف لي خير منها. إلا آجره الله تعالى في مصيبته، وأخلف له خيرا منها». قالت: فلما توفي أبو سلمة؛ قلت كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأخلف الله لي خيرا منه: رسول الله صلى الله عليه وسلم([2]).
وروي أيضا عنها رضي الله عنها؛ قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة؛ وقد شق بصره، فأغمضه، ثم قال: «إن الروح إذا قبض؛ تبعه البصر». فضج ناس من أهله، فقال: «لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير؛ فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون». ثم قال: «اللهم! اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، وأخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وأفسح له في قبره ونور له فيه»([3]).
من كتاب
الوابل الصيب من الكلم الطيب
SeIfElLaH- مجلس المدراء
- الأوسمة :
عدد المساهمات : 4497
نقاط : 6387
تاريخ التسجيل : 22/03/2010
العمر : 48
- مساهمة رقم 7
رد: آراء ابن القيم حول الإعاقة
قد تكون البلية عين النعمة([1])
إذا ابتلى الله عبده بشيء من أنواع البلايا والمحن؛ فإن رده ذلك الابتلاء والمحن إلى ربه، وجمعه عليه، وطرحه ببابه؛ فهو علامة سعادته وإرادة الخير به، والشدة بتراء لا دوام لها وإن طالت، فتقلع عنه حين تقلع وقد عوض منها أجل عوض وأفضله، وهو رجوعه إلى الله بعد أن كان شاردا عنه، وإقباله عليه بعد أن كان نائيا عنه، وانطراحه على بابه بعد أن كان مُعْرِضًا، وللوقوف على أبواب غيره متعرضا، وكانت البلية في حق هذا عين النعمة، وإن ساءته وكرهها طبعه ونفرت منها نفسه؛ فربما كان مكروه النفوس إلى محبوبها سببا ما مثله سبب.
وقوله تعالى في ذلك هو الشفاء والعصمة: }وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ{([2]).
وإن لم يرده ذلك البلاء إليه، بل شرد قلبه عنه، ورده إلى الخلق، وأنساه ذكر ربه والضراعة إليه والتذلل بين يديه والتوبة والرجوع إليه؛ فهو علامة شقاوته وإرادة الشر به؛ فهذا إذا أقلع عنه البلاء؛ رده إلى حكم طبيعته وسلطان شهوته ومرحه وفرحه، فجاءت طبيعته عند القدرة بأنواع الشر والبطر والإعراض عن شكر المنعم عليه بالسراء كما أعرض عن ذكره والتضرع إليه في الضراء.
فبلية هذا وبال عليه وعقوبة ونقص في حقه، وبلية الأول تطهير له ورحمة وتكميل.
وبالله التوفيق.
من كتاب
طريق الهجرتين وباب السعادتين
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]([1]) ومن ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن عظم الجزاء من عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم». رواه: الترمذي، وابن ماجة.
SeIfElLaH- مجلس المدراء
- الأوسمة :
عدد المساهمات : 4497
نقاط : 6387
تاريخ التسجيل : 22/03/2010
العمر : 48
- مساهمة رقم 8
رد: آراء ابن القيم حول الإعاقة
الصبر على البلاء
والصبر على البلاء ينشأ من أسباب عديدة:
أحدها: شهود جزائها وثوابها.
الثاني: شهود تكفيرها للسيئات ومحوها لها.
الثالث: شهود القدر السابق الجاري بها، وأنها مقدرة في أم الكتاب قبل أن تخلق؛ فلا بد منها؛ فجزعه لا يزيده إلا بلاءً.
الرابع: شهود خلق الله عليه في تلك البلوى، وواجبه فيها الصبر لا خلاف بين الأمة، أو الصبر والرضى على أحد القولين؛ فهو مأمور بأداء حق الله وعبوديته عليه في تلك البلوى؛ فلا بد له منه، وإلا؛ تضاعفت عليه.
الخامس: شهود ترتبها عليه بذنبه؛ كما قال الله تعالى: }وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ{([1]).
فهذا عام في كل مصيبة دقيقة وجليلة؛ فشغله شهود هذا السبب بالاستغفار الذي هو أعظم الأسباب في دفع تلك المصيبة.
قال علي بن أبي طالب: "ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع بلاء إلا بتوبة".
السادس: أن يعلم أن الله قد ارتضاها له واختارها وقسمها، وأن العبودية تقتضي رضاه بما رضي له به سيده ومولاه؛ فإن لم يوف قدر المقام حقه؛ فهو لضعفه؛ فلينزل إلى مقام الصبر عليها؛ فإن نزل عنه؛ نزل إلى مقام الظلم وتعدي الحق.
السابع: أن يعلم أن هذه المصيبة هي دواء نافع ساقه إليه الطبيب العليم بمصلحته الرحيم به؛ فليصبر على تجرعه، ولا يتقيأه بتسخطه وشكواه؛ فيذهب نفعه باطلا.
الثامن: أن يعلم أن في عُقبى هذا الدواء من الشفاء والعافية والصحة وزوال الألم ما لم تحصل بدونه؛ فإذا طالعت نفسه كراهة هذا الدواء ومرارته؛ فلينظر إلى عاقبته وحسن تأثيره.
قال الله تعالى: }وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ{([2]).
وقال تعالى: }فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا{([3]).
وفي مثل هذا قال القائل:
لعل عتبك محمود عواقبه | وربما صحت الأجسام بالعلل |
التاسع: أن يعلم أن المصيبة ما جاءت لتهلكه وتقتله، وإنما جاءت لتمتحن صبره وتبتليه؛ فيتبين حينئذ هل يصلح لاستخدامه وجعله من أولياه وحزبه أم لا؟ فإن ثبت؛ اصطفاه واجتباه وخلع عليه خلع الإكرام وألبسه ملابس الفضل وجعل أولياءه وحزبه خدما له وعونا له، وإن انقلب على وجهه ونكص على عقبيه؛ طرد وصفع قفاه وأقصي وتضاعفت عليه المصيبة وهو لا يشعر في الحال بتضاعفها وزيادتها، ولكن سيعلم بعد ذلك بأن المصيبة في حقه صارت مصائب، كما يعلم الصابر أن المصيبة في حقه صارت نعما عديدة.
وما بين هاتين المنزلتين المتباينتين إلا صبر ساعة، وتشجيع القلب في تلك الساعة، والمصيبة لابد أن تقلع عن هذا وهذا، ولكن تقلع عن هذا بأنواع الكرامات والخيرات، عن الآخر بالحرمان والخذلان؛ لأن ذلك تقدير العزيز العليم، وفضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
العاشر: أن يعلم أن الله يربي عبده على السراء والضراء، والنعمة والبلاء، فيستخرج منه عبوديته في جميع الأحوال؛ فإن العبد على الحقيقة من قام بعبودية الله على اختلاف الأحوال، وأما عبد السراء والعافية الذي يعبد الله على حرف؛ فإن أصابه خير؛ اطمأن به، وإن أصابته فتنة؛ انقلب على وجهه؛ فليس من عبيده الذين اختارهم لعبوديته.
فلا ريب أن الإيمان الذي يثبت على محل الابتلاء والعافية هو الإيمان النافع وقت الحاجة، وأما إيمان العافية؛ فلا يكاد يصحب العبد ويبلغه منازل المؤمنين، وإنما يصحبه إيمان على البلاء والعافية؛ فالابتلاء كير العبد ومحك إيمانه: فإما أن يخرج تبراً أحمر، وإما أن يخرج زغلا محضا، وإما أن يخرج فيه مادتان ذهبية ونحاسية؛ فلا يزال به البلاء حتى يخرج المادة النحاسية من ذهبه ويبقى ذهبا خالصا؛ فلو علم العبد أن نعمة الله عليه في البلاء ليست بدون نعمة الله عليه في العافية؛ لشغل قلبه بشكره ولسانه، اللهم! أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. وكيف لا يشكر من قيض له ما يستخرج خبثه ونحاسه وصيره تبرا خالصا يصلح لمجاورته والنظر إليه في داره؟
فهذه الأسباب ونحوها تثمر الصبر على البلاء؛ فإن قويت؛ أثمرت الرضى والشكر.
فنسأل الله أن يسترنا بعافيته، ولا يفضحنا بابتلائه بمنه وكرمه.
من كتاب
طريق الهجرتين وباب السعادتين
SeIfElLaH- مجلس المدراء
- الأوسمة :
عدد المساهمات : 4497
نقاط : 6387
تاريخ التسجيل : 22/03/2010
العمر : 48
- مساهمة رقم 9
رد: آراء ابن القيم حول الإعاقة
صدقة من لا مال له
سأله صلى الله عليه وسلم أبو ذر، فقال: من أين أتصدق وليس لي مال؟ قال: «إن من أبواب الصدقة: التكبير، وسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، وأستغفر الله، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتعزل الشوكة عن طريق الناس والعظم والحجر، وتهدي الأعمى، وتسمع الأصم والأبكم حتى يفقه، وتدل المستدل على حاجة له قد علمت مكانها، وتسعى بشدة ساقيك إلى اللهفان المستغيث، وترفع بشدة ذراعيك مع الضعيف؛ كل ذلك من أبواب الصدقة منك على نفسك ولك من جماعك لزوجتك أجر»([1]).
من كتاب
فتاوى رسول الله صلى الله عليه وسلم
SeIfElLaH- مجلس المدراء
- الأوسمة :
عدد المساهمات : 4497
نقاط : 6387
تاريخ التسجيل : 22/03/2010
العمر : 48
- مساهمة رقم 10
رد: آراء ابن القيم حول الإعاقة
في العمى([1]) عن الحق
إن الله سبحانه دعا إلى تدبر كتابه وتعلقه وتفهمه، وذم الذين لا يفهمونه ولا يعقلونه، وأسجل عليهم بالكفر والنفاق:
فقال عن المنافقين: }وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آَنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ{([2]).
وقال: }وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ{([3]).
وقال: }وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ{([4]).
وقال: }وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ{([5]).
فالقائل: إن كتاب الله وسنة رسوله لا يستفاد منها يقين من جنس هؤلاء المعطلة والجهمية، لا فرق بينهم وبينه، وأما من يستفيد منهما العلم واليقين؛ فهم الذي قال الله فيهم: }وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ{([6])، وهؤلاء يرونه غير مفيد.
وقد كشف سبحانه حال الفريقين بقوله: }أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ{([7]).
وقال: }مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ{([8]).
من كتاب
الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]([1]) إن العمى ورد في القرآن الكريم بمعنى فقد البصر، وقد جاء في: قوله تعالى: }أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى{، وقوله: }لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ{.
كما جاءت كلمة أعمى بمعنى عمى القلب أو عمى البصيرة، ومن ذلك: }فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ{.
ومن عمى القلب العمى عن الحجة، وورد ذلك في قوله تعالى: }وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى{.
ومن عمى القلب الكفر، ومن ذلك: }مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ{.
"أحكام الأعمى في الفقه الإسلامي": رسالة ماجستير، خالد محمد الدوغان.
SeIfElLaH- مجلس المدراء
- الأوسمة :
عدد المساهمات : 4497
نقاط : 6387
تاريخ التسجيل : 22/03/2010
العمر : 48
- مساهمة رقم 11
رد: آراء ابن القيم حول الإعاقة
صم([1]) بكم عمي
وأما الصمم والوقر:
ففي قوله تعالى: }صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ{([2]).
وقوله: }أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ{([3]).
وقوله: }وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ{([4]).
وقوله تعالى: }وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ{([5]).
قال ابن عباس: في آذانهم صمم عن استماع القرآن، وهو عليهم عمى، أعمى الله قلوبهم فلا يفقهون، أولئك ينادون من مكان بعيد، مثل البهيمة التي لا تفهم إلا دعاء ونداء.
وقال مجاهد: بعيد من قلوبهم.
وقال الفراء: تقول للرجل الذي لا يفهم كذلك: أنت تنادي من مكان بعيد. قال: وجاء في التفسير: كأنما ينادون من السماء فلا يسمعون. انتهى.
والمعنى: أنهم لا يسمعون ولا يفهمون كما أن من دعي من مكان بعيد لا يسمع ولا يفهم.
وأما البكم؛ فقال تعالى: }صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ{([6]).
والبكم جمع أبكم، وهو الذي لا ينطق.
والبكم نوعان: بكم القلب وبكم اللسان؛ كما أن النطق نطقان: نطق القلب ونطق اللسان. وأشدهما: بكم القلب، كما أن عماه وصممه أشد من عمى العين وصمم الآذان.
فوصفهم الله سبحانه بأنهم لا يفقهون الحق، ولا تنطق به ألسنتهم، والعلم يدخل من ثلاثة أبواب، من سمعه وبصره وقلبه، وقد سدت عليهم هذه الأبواب الثلاثة؛ فسد السمع بالصمم، والبصر بالعمى، والقلب بالبكم.
ونظيره قوله تعالى: }لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا{([7]).
وقد جمع الله سبحانه بين الثلاثة في قوله: }وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ{([8]).
فإذا أراد سبحانه هداية عبد؛ فتح قلبه وسمعه وبصره، وإذا أراد ضلاله؛ أصمه وأعماه وأبكمه.
وبالله التوفيق([9]).
من كتاب
التفسير القيم
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]([1]) وردت كلمة (صم) ومشتقاتها في القرآن الكريم (صُمٌّ، صمُّو، أصمَّهم، صُمّاً، الأصم) خمس عشرة مرة.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]([9]) "شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل".
SeIfElLaH- مجلس المدراء
- الأوسمة :
عدد المساهمات : 4497
نقاط : 6387
تاريخ التسجيل : 22/03/2010
العمر : 48
- مساهمة رقم 12
رد: آراء ابن القيم حول الإعاقة
في تفسير العمى في قوله تعالى
ونحشره يوم القيامة أعمى
وقوله تعالى: }وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا{([1]): اختلف فيه: هل هو من عمى البصيرة أو من عمى البصر؟
والذين قالوا: هو من عمى البصيرة: إنما حملهم على ذلك قوله: }أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا{([2])، وقوله: }لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ{([3])، وقوله: }يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ{([4])، وقوله: }لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ{([5])، ونظائر هذا مما أثبت لهم الرؤية في الآخرة؛ كقوله تعالى: }وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ{([6])، وقوله: }يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ{([7])، وقوله: }وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا{([8]).
والذين رجحوا أنه من عمى البصر؛ قالوا: السياق لا يدل إلا عليه؛ لقوله: }قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا{([9])، وهو لم يكن بصيرا في كفره قط، بل قد تبين له حينئذ أنه كان في الدنيا في عمى عن الحق؛ فكيف يقول: وقد كنت بصيرا؟! وكيف يجاب بقوله: }كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى{([10])، بل هذا الجواب فيه تنبيه على أنه من عمى البصر، وأنه جوزيَ من جنس عمله؛ فإنه لما أعرض عن الذكر الذي بعث الله به رسوله, وعميت عنه بصيرته؛ أعمى الله بصره يوم القيامة وتركه في العذاب كما ترك هو الذكر في الدنيا؛ فجازاه على عمى بصيرته عمى بصره في الآخرة، وعلى تركه ذكره في العذاب وقال تعالى: }وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا{([11]).
وقد قيل في الآية أيضا: إنهم عميٌ وبكمٌ وصمٌ عن الهدى؛ كما قيل في قوله: }وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى{([12])؛ قالوا: لأنهم يتكلمون يومئذ ويسمعون ويبصرون.
ومن نصر أنه العمى والبكم والصم المضاد للبصر والسمع والنطق؛ قال بعضهم: هو عمى وصمم وبكم مقيد لا مطلق؛ فهم عمي عن رؤية ما يسرهم وسماعه، ولهذا قد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال: "لا يرون شيئا يسرهم".
وقال آخرون: هذا الحشر حين تتوفاهم الملائكة يخرجون من الدنيا كذلك؛ فإذا قاموا من قبورهم إلى الموقف؛ قاموا كذلك، ثم إنهم يسمعون ويبصرون فيما بعد. وهذا مروي عن الحسن.
وقال آخرون: هذا إنما يكون إذا دخلوا النار واستقروا فيها؛ سٌلبوا الأسماع والأبصار والنطق، حين يقول لهم الرب تبارك وتعالى: }اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ{([13])؛ فحينئذ ينقطع الرجاء وتبكم عقولهم، فيبصرون بأجمعهم عميا وبكما وصما، لا يبصرون ولا يسمعون ولا ينطقون، ولا يسمع منهم إلا الزفير والشهيق. وهذا منقول عن مقاتل.
والذين قالوا: المراد به العمى عن الحجة إنما مرادهم([14]) أنهم لا حجة لهم، ولم يريدوا أن لهم حجة هم عُمي عنها، بل هم عُمي عن الهدى، كما كانوا في الدنيا؛ فإن العبد يموت على ما عاش عليه، ويبعث على ما مات عليه.
وبهذا يظهر أن الصواب هو القول الآخر، وأنه عمى البصر([15]) فإن الكافر يعلم الحق يوم القيامة عيانا، ويقر بما كان يجحده في الدنيا؛ فليس هو أعمى عن الحق يومئذ.
وفصل الخطاب: أن الحشر هو الضم والجمع، ويراد به تارة: الحشر إلى موقف القيامة؛ كقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلا»، وكقوله تعالى:}وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ{([16])، وكقوله تعالى: }وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا{([17])، ويراد به الضم والجمع إلى دار المستقر؛ فحشر المتقين: جمعهم وضمهم إلى الجنة، وحشر الكافرين: جمعهم وضمهم إلى النار؛ قال تعالى: }يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا{([18])، وقال تعالى: }احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ{([19])؛ فهذا الحشر هو بعد حشرهم إلى الموقف، وهو حشرهم وضمهم إلى النار؛ لأنه قد أخبر عنهم أنهم قالوا:}يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ * هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ{([20])، ثم قال تعالى: }احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ{([21])، وهذا الحشر الثاني.
وعلى هذا؛ فهم ما بين الحشر الأول من القبور إلى الموقف، والحشر الثاني من الموقف إلى النار؛ فعند الحشر الأول: يسمعون ويبصرون ويجادلون ويتكلمون، وعند الحشر الثاني: يحشرون على وجوههم عميا وبكما وصما. فلكل موقف حال يليق به ويقتضيه عدل الرب تعالى وحكمته.
فالقرآن يصدق بعضه بعضا، }وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا{([22]،[23]).
من كتاب
التفسير القيم
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]([14]) وهذا قول مجاهد وأبي صالح السدي.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]([15]) قال ابن كثير في "تفسيره": "ويحتمل أن يكون المراد أنه يبعث أو يحشر إلى النار أعمى البصر والبصيرة أيضا".
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]([23]) "مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة؛ (ج1).
SeIfElLaH- مجلس المدراء
- الأوسمة :
عدد المساهمات : 4497
نقاط : 6387
تاريخ التسجيل : 22/03/2010
العمر : 48
- مساهمة رقم 13
رد: آراء ابن القيم حول الإعاقة
لم يخروا عليها صما وعميانا
قوله تعالى: }وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا{([1]،[2]).
قال مقاتل: إذا وعظوا بالقرآن؛ لم يقعوا عليه صما لم يسمعوه وعميانا لم يبصره، لكنهم سمعوا وأبصروا وأيقنوا به.
وقال ابن عباس: لم يكونوا عليه صما وعميانا، بل كانوا خائفين خاشعين.
وقال الكلبي: يخرون عليها سمعا وبصرا.
وقال الفراء: وإذا تُلي عليهم القرآن؛ لم يقعدوا على حالهم الأولى؛ كأنهم لم يسمعوه؛ فذلك الخرور، وسُمعت العرب تقول: قعد يشتمني؛ كقولك: قام يشتمني، وأقبل يشتمني، والمعنى على ما ذكر: لم يصيروا عندها صما وعميانا.
وقال الزجاج: المعنى: إذا تليت عليهم خروا سجدا وبكيا سامعين مبصرين كما أُمروا به.
وقال ابن قتيبة: أي: لم يتغافلوا عنها كأنهم صم لم يسمعوها وعمي لم يروها.
قلت: ها هنا أمران: ذكر الخرور، وتسليط النفي عليه، وهل هو خرور القلب أو خرور البدن للسجود؟ وهل المعنى: لم يكن خرورهم عن صمم وعمه؛ فلهم عليها خرور بالقلب خضوعا أو بالبدن سجودا، أو ليس هناك خرور وعبر به عن القعود؟
من كتاب
الفــــوائـد
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]([2]) قال ابن كثير في "تفسيره": قوله: }لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا{: هذه صفات المؤمنين؛ بخلاف الكافر الذي إذا سمع آيات الله فلا تؤثر فيه، فيستمر على حاله، كأن لم يسمعها أصم أعمى.
قال مجاهد: قوله: }لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا{؛ أي: لم يسمعوا ولم يبصروا ولم يفقهوا شيئا.
وقال الحسن البصري رضي الله عنه: كم من رجل يقرؤها ويخر عليها أصم أعمى.
SeIfElLaH- مجلس المدراء
- الأوسمة :
عدد المساهمات : 4497
نقاط : 6387
تاريخ التسجيل : 22/03/2010
العمر : 48
- مساهمة رقم 14
رد: آراء ابن القيم حول الإعاقة
مثل الفريقين كالأعمى والأصم
قوله تعالى: }مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ{([1]،[2]).
فإنه ذكر سبحانه الكفار ووصفهم بأنهم ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون، ثم ذكر المؤمنين ووصفهم بالإيمان والعمل الصالح والإخبات إلى ربهم، فوصفهم بعبودية الظاهر والباطن، ثم جعل أحد الفريقين كالأعمى والأصم من حيث كان قلبه أعمى عن رؤية الحق أصم عن سماعه، فشبه بمن بصره أعمى عن رؤية الأشياء وسمعه أصم عن استماع الأصوات، والفريق الآخر بصير القلب سميعه بصير العين سميع الأذن.
وقد تضمنت الآية قياسين وتمثيلين للفريقين، ثم نفى التسوية عن الفريقين بقوله: }هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا{([3]،[4]).
من كتاب
التفسير القيم
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]([2]) قال ابن كثير: "إن الكافر أعمى عن وجه الحق في الدنيا والآخرة، لا يهتدي إلى خير ولا يعرفه، أصم عن سماع الحجج؛ فلا يسمع ما ينتفع به، أما المؤمن؛ ففطن ذكي لبيب بصير بالحق يميز بينه وبين الباطل، فيتبع الخير ويترك الشر".
SeIfElLaH- مجلس المدراء
- الأوسمة :
عدد المساهمات : 4497
نقاط : 6387
تاريخ التسجيل : 22/03/2010
العمر : 48
- مساهمة رقم 15
رد: آراء ابن القيم حول الإعاقة
حال من عدم البصر
تأمل حال من عدم البصر وما يناله من الخلل في أموره؛ فإنه لا يعرف موضع قدمه، ولا يبصر ما بين يديه، ولا يفرق بين الألوان والمناظر الحسنة من القبيحة، ولا يتمكن من استفادة علم من كتاب يقرؤه، ولا يتهيأ له الاعتبار والنظر في عجائب ملك الله، هذا مع أنه لا يشعر بكثير من مصالحه ومضاره؛ فلا يشعر بحفرة يهوي فيها، ولا بحيوان يقصده كالسبع فيتحرز له، ولا بعدو يهوي نحوه ليقتله، ولا يتمكن من الهرب إن طلب، بل هو ملقي السلم لمن رامه بأذى، ولولا حفظ خاص من الله له قريب من حفظ الوليد وكلائته؛ لكان عطبه أقرب من سلامته؛ فإنه بمنزله لحم على وضم، ولذلك جعل الله ثوابه إذا صبر واحتسب الجنة([1]).
ومن كمال لطفه أن عكس نور بصره إلى بصيرته؛ فهو أقوى الناس بصيرة وحدسا، وجمع عليه همه؛ فقلبه مجموع عليه، غير مشتت؛ ليهنأ له العيش، وتتم مصلحته، ولا يظن أنه مغموم حزين متأسف.
هذا حكم من ولد أعمى؛ فأما من أصيب بعينيه بعد البصر؛ فهو بمنزلة سائر أهل البلاء المنتقلين من العافية إلى البلية؛ فالمحنة عليه شديدة؛ لأنه قد حيل بينه وبين ما ألفه من المرائي والصور ووجوه الانتفاع ببصره؛ فهذا له حكم آخر.
وكذلك من عدم السمع؛ فإنه يفقد روح المخاطبة والمحاورة، وبعدم لذة المذاكرة ونعمة الأصوات الشجية، وتعظم المؤنة على الناس في خطابه، ويتبرمون به، ولا يسمع شيئا من أخبار الناس وأحاديثهم؛ فهو بينهم شاهد كغائب وحي كميت وقريب كبعيد.
وقد اختلف النظار في أيهما أقرب إلى الكمال وأقل اختلالا لأموره الضرير أو الأطرش، وذكروا في ذلك وجوها، وهذا مبني على أصل آخر، وهو: أي الصفتين أكمل صفة السمع أوصفة البصر؟ فأي الصفتين كانت أكمل؛ فالضرر بعدمها أقوى.
والذي يليق بهذا الموضع أن يقال: عادم البصر أشدهما ضررا وأسلمهما دينا وأحمدهما عاقبة، وعادم السمع أقلهما ضررا في دنياه وأجهلهما بدينه وأسوأ عاقبة؛ فإنه إذا عدم السمع؛ عدمت المواعظ والنصائح، وانسدت عليه أبواب العلوم النافعة، وانفتحت له طرق الشهوات التي يدركها البصير، ولا يناله من العلم ما يكفه عنها؛ فضرره في دينه أكثر، وضرر الأعمى في دنياه أكثر، لهذا لم يكن في الصحابة أطرش، وكان فيهم جماعة أضراء، وقل أن يبتلي الله أولياءه بالطرش، ويبتلي كثيرا منهم بالعمى.
فهذا فصل الخطاب في هذه المسألة؛ فمضرة الطرش في الدين، ومضرة العمى في الدنيا، والمعافى من عافاه الله منهما، ومتعه بسمعه وبصره، وجعلهما الوارثين منه.
من كتاب
مفتاح دار السعادة
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]([1]) من ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن الله قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه، فصبر؛ عوضته منهما الجنة». رواه البخاري (5653).
SeIfElLaH- مجلس المدراء
- الأوسمة :
عدد المساهمات : 4497
نقاط : 6387
تاريخ التسجيل : 22/03/2010
العمر : 48
- مساهمة رقم 16
رد: آراء ابن القيم حول الإعاقة
تقديم السمع على البصر
السمع متقدم على البصر حيث وقع في القرآن الكريم؛ مصدرا فعلا أو اسما:
فالأول كقوله تعالى: }إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا{([1]).
والثاني كقوله تعالى: }إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى{([2]).
والثالث كقوله تعالى: }سَمِيعٌ بَصِيرٌ{([3]). }إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ{([4])، }وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا{([5]).
فاحتج بهذا من يقول: إن السمع أشرف من البصر، وهذا قول الأكثرين، وهو الذي ذكره أصحاب الشافعي، وحكوا هم وغيرهم عن أصحاب أبي حنيفة أنهم قالوا: البصر أفضل، ونصبوا معهم الخلاف، وذكروا الحجج من الطرفين، ولا أدري ما يترتب على هذه المسألة من الأحكام حتى تذكر في كتب الفقه، وكذلك القولان للمتكلمين والمفسرين، وحكى أبو المعالي عن ابن قتيبة تفضيل البصر ورد عليه.
واحتج مفضلو السمع بأن الله تعالى يقدمه في القرآن حيث وقع، وبالسمع تنال سعادة الدنيا والآخرة؛ فإن السعادة بأجمعها في طاعة الرسل والإيمان بما جاؤوا به، وهذا إنما يُدرك بالسمع، ولهذا في الحديث الذي رواه أحمد وغيره من حديث الأسود بن سريع: «ثلاثة كلهم يدلي على الله بحجته يوم القيامة... (فذكر منهم رجلا أصم) يقول: يا رب! لقد جاء الإسلام وأنا لا أسمع شيئا...».
واحتجوا بأن العلوم الحاصلة من السمع أضعاف العلوم الحاصلة من البصر؛ فإن البصر لا يدرك إلا بعض الموجودات المشاهدة بالبصر القريبة، والسمع يدرك الموجودات والمعدومات، والحاضر والغائب، والقريب والبعيد، والواجب والممكن والممتنع؛ فلا نسبة لإدراك البصر إلى إدراكه.
واحتجوا بأن فقد السمع يوجب ثلم القلب واللسان، ولهذا كان الأطرش خلقه لا ينطق في الغالب، وأما فقد البصر؛ فربما كان معينا على قوة إدراك البصيرة وشدة ذكائها؛ فإن نور البصر ينعكس إلى البصيرة باطنا فيقوى إدراكها ويعظم، ولهذا تجد كثيرا من العميان أو أكثرهم عندهم من الذكاء الوقاد والفطنة وضياء الحس الباطن مالا تكاد تجده عند البصير.
ولا ريب أن سفر البصر في الجهات والأقطار ومباشرته للمبصرات على اختلافها يوجب تفرق القلب وتشتيته، ولهذا كان الليل أجمع للقلب، والخلوة أعون على إصابة الفكرة.
قالوا: فليس نقص فاقد السمع كنقص فاقد البصر، ولهذا كثير في العلماء والفضلاء وأئمة الإسلام من هو أعمى، ولم يعرف فيهم واحد أطرش، بل لا يعرف في الصحابة أطرش.
فهذا ونحوه من احتجاجهم عل تفضيل البصر.
قال منازعوهم: يفصل بيننا وبينكم أمران:
أحدهما: إن مدرك البصر يستطيع النظر إلى وجه الله تعالى في الدار الآخرة، وهو أفضل نعيم أهل الجنة وأحبه إليهم، ولا شيء أكمل من المنظور إليه سبحانه؛ فلا حاسة في العبد أكمل من حاسة تراه بها.
الثاني: إن هذا النعيم وهذا العطاء إنما نالوه بواسطة السمع؛ فكان السمع كالوسيلة لهذا المطلوب الأعظم؛ فتفضيله عليه كفضيلة الغايات على وسائلها.
وأما ما ذكرتم من سعة إدراكاته وعمومها؛ فيعارضه كثرة الخيانة فيها ووقوع الغلط؛ فإن الصواب فيما يدركه السمع بالإضافة إلى كثرة المسموعات قليل في كثير، ويقابل كثير مدركاته صحة مدركات البصر وعدم الخيانة، وأن ما يراه ويشاهده لا يعرض فيه من الكذب ما يعرض فيه فيما يسمعه، وإذا تقابلت المرتبتان؛ بقي الترجيح بما ذكرناه.
قال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية -قدس الله روحه ونور ضريحه-: وفصل([6]) الخطاب إن إدراك السمع أعم أشمل، وإدراك البصر أتم وأكمل؛ فهذا له التمام والكمال، وذاك له العموم والشمول؛ فقد ترجح كل منهما على الآخر بما اختص به. ثم كلامه.
من كتاب
بدائع الفوائد
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]([6]) كثيرًا ما تناقش مثل هذه القضية في الندوات والمؤتمرات الخاصة بشؤون المعاقين في الوقت الحاضر، ولا شك أن رأي شيخ الإسلام موفق من حيث فصل الخطاب في هذا الموضوع.
SeIfElLaH- مجلس المدراء
- الأوسمة :
عدد المساهمات : 4497
نقاط : 6387
تاريخ التسجيل : 22/03/2010
العمر : 48
- مساهمة رقم 17
رد: آراء ابن القيم حول الإعاقة
أيهما أفضل: السمع أم البصر؟
اختلف ابن قتيبة وابن الأنباري في السمع والبصر أيهما أفضل؟
ففضل ابن قتيبة السمع ووافقه طائفة، واحتج بقوله تعالى: }وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ{([1]).
قال: فلما قرن بذهاب السمع ذهاب العقل، ولم يقرن بذهاب النظر إلى ذهاب البصر؛ كان دليلا على أن السمع أفضل.
قال ابن الأنباري: هذا غلط، وكيف يكون السمع أفضل؛ وبالبصر يكون الإقبال والإدبار، والقرب إلى النجاة والبعد من الهلاك، وبه جمال الوجه وبذهابه شينه، وفي الحديث: «من ذهبت كريمتيه فصبر واحتسب؛ لم أرض له ثوابا دون الجنة»([2])؟!
وأجاب عما ذكره ابن قتيبة بأن الذي نفاه الله تعالى مع السمع بمنزلة الذي نفاه عن البصر؛ إذ كأنه أراد إبصار القلوب ولم يرد إبصار العيون، والذي يبصره القلب هو الذي يعقله؛ لأنها نزلت في قوم من اليهود كانوا يستمعون كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فيقفون على صحته، ثم يكذبونه، فأنزل الله فيهم: }أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ{؛ أي: المعرضين، }وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ{: بعين نقص، }أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ{؛ أي المعرضين، }وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ{.
قال: ولا حجة في تقديم السمع على البصر هنا؛ أخبر في قوله تعالى: }مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ{([3]).
قلت: واحتج مفضلو السمع بأن به ينال غاية السعادة من سماع كلام الله وسماع كلام رسوله.
قالوا: وبه حصلت العلوم النافعة.
قالوا: وبه يُدرك الحاضر والغائب، والمحسوس والمعقول؛ فلا نسبة لمدرك البصر إلى مدرك السمع.
قالوا: ولهذا يكون فاقده أقل علما من فاقد البصر، بل قد يكون فاقد البصر أحد العلماء الكبار؛ بخلاف فاقد صفة السمع؛ فإنه لم يُعهد من هذا الجنس عالم البتة.
قال مفضلو البصر: أفضل النعيم النظر إلى الرب تعالى، وهو يكون بالبصر، والذي يراه البصر لا يقبل الغلط؛ بخلاف ما يسمع؛ فإنه يقع فيه الغلط والكذب والوهم؛ فمدرك البصر أتم وأكمل.
قالوا: وأيضا؛ فمحله أحسن وأكمل وأعظم عجائب من محل السمع، وذلك لشرفه وفضله.
قال شيخنا ابن تيمية: والتحقيق أن السمع له مزية والبصر له مزية؛ فمزية السمع العموم والشمول، ومزية البصر كمال الإدراك وتمامه؛ فالسمع أعم وأشمل، والبصر أتم وأكمل؛ فهذا أفضل من جهة شمول إدراكه وعمومه، وهذا أفضل من جهة كمال إدراكه وتمامه.
من كتاب
بدائع الفوائد
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]([2]) رواه الترمذي (2403)، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
SeIfElLaH- مجلس المدراء
- الأوسمة :
عدد المساهمات : 4497
نقاط : 6387
تاريخ التسجيل : 22/03/2010
العمر : 48
- مساهمة رقم 18
رد: آراء ابن القيم حول الإعاقة
أمر الرسول بالتخفيف
عند إمامة المسلمين
عن أبي مسعود: أن رجلا قال: والله يا رسول الله! إني لأتأخر عن صلاة الغداة([1]) من أجل فلان مما يطيل بنا. فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في موعظة أشد غضبا منه يومئذ، ثم قال: «أيها الناس! إن منكم مُنفرين؛ فأيكم ما صلى بالناس؛ فليتجوز؛ فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة». رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية للبخاري: «فإن فيهم الكبير والضعيف وذا الحاجة»([2]).
وعن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أمَّ أحدكم؛ فليخفف؛ فإن فيهم الصغير والكبير والضعيف والمريض، وإذا صلى وحده؛ فليصل كيف شاء». رواه البخاري ومسلم، واللفظ لمسلم([3]).
وعن عثمان بن أبي العاص الثقفي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «إمَّ قومك». قال: قلت: يا رسول الله! إني أجد في نفسي شيئا. قال: «ادنهُ». فأجلسني بين يديه، ثم وضع كفه في صدري بين ثديَّي، ثم قال: «تحوَّل». فوضعها في ظهري بين كتفي، ثم قال: «إمَّ قومك؛ فمن أمَّ قوماً؛ فليخفف؛ فإن فيهم الكبير، وإن فيهم المريض، وإن فيهم الضعيف، وإن فيهم ذا الحاجة([4])؛ فإذا صلى أحدكم وحده، فليصلِّ كيف شاء». رواه مسلم.
وفي رواية: «إذا أممت قوما؛ فأخفف بهم الصلاة»([5]).
وقال أنس بن مالك: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يوجز الصلاة ويكملها".
وفي لفظ: «يوجز ويتم». متفق عليه.
وقال أنس أيضا: "وما صليت وراء إمام أخف صلاة ولا أتم من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان ليسمع بكاء الصبي؛ فيخفف؛ مخافة أن يفتن أمه". متفق عليه، وسياقه للبخاري.
من كتاب
الصلاة وحكم تاركها
([size=19][1]) أي: صلاة الصبح.[/size]
([size=19][2]) البخاري في الأذان، ومسلم في الصلاة.[/size]
([size=19][3]) مسلم في الصلاة، والبخاري في الأذان.[/size]
([size=19][4]) لأن في المسلمين من لا يطيق التطويل، إما لعجزه أو مرضه أو حاجته، وهذا يدل على وجوب مراعاة العاجزين وأصحاب الحاجات في الصلاة. "تيسير العلام شرح عمدة الأحكام" لعبد الله البسام.[/size]
([size=19][5]) مسلم في الصلاة.[/size]
SeIfElLaH- مجلس المدراء
- الأوسمة :
عدد المساهمات : 4497
نقاط : 6387
تاريخ التسجيل : 22/03/2010
العمر : 48
- مساهمة رقم 19
رد: آراء ابن القيم حول الإعاقة
ألفاظ التخلف العقلي
يقال: مجنون، ومغبون([1])، ومهروع([2])، ومخفوع([3])، ومعتوه([4])، وممتوه، وممته([5])، وممسوس([6])، وبه لمص([7])، ومصاب في عقله؛ فهذه عشرة ألفاظ.
وأما مخروع، فصحفها العامة من مهروع([8]).
من كتاب
بدائع الفوائد
([size=19][1]) المغبون: ضعيف الرأي.[/size]
([size=19][2]) المهروع: المجنون أو المصروع نتيجة الإرهاق.[/size]
([size=19][3]) مخفوع: كاد يغمى عليه من جوع أو غيره.[/size]
([size=19][4]) معتوه: أحمق ناقص العقل.[/size]
([size=19][5]) ممتوه وممته: آخذ في الغواية والباطل.[/size]
([size=19][6]) ممسوس: أصابه مس من الجنون.[/size]
([size=19][7]) اللمص: اغتياب الناس.[/size]
([size=19][8]) في هذا المبحث يتضح قدرات ابن القيم اللغوية.[/size]
SeIfElLaH- مجلس المدراء
- الأوسمة :
عدد المساهمات : 4497
نقاط : 6387
تاريخ التسجيل : 22/03/2010
العمر : 48
- مساهمة رقم 20
رد: آراء ابن القيم حول الإعاقة
معنى الجنون
وأما الجنون؛ فمن الحُب ما يكون جنونا، ومنه قوله:
قالت جُننت بمن تهوى فقلت لها | ||
العشق أعظم مما بالمجانين | ||
العشق لا يستفيق الدهر صاحبه | ||
وإنما يُصرع المجنون في الحين | ||
وأصل المادة من السَّتر في جميع تصاريفها، ومنه أجنَّة الليل وجَنّ عليه إذا ستره، ومنه الجنين لاستتاره في بطن أمه، ومنه الجنة لاستتارها بالأشجار، ومنه المِِجَن لاستتار الضارب به والمضروب,ومنه الجنّ لاستتارهم عن العيون بخلاف الإنس؛ فإنهم يؤنسون؛ أي: يُرون، ومنه الجُنة بالضم هي ما استترت به واتقيت، ومنه قوله تعالى: }اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً{([1])، وأجننت الميت: واريته في القبر؛ فهو جنين.
والحب المفرط يستر العقل؛ فلا يعقل المحب ما ينفعه ويضره؛ فهو شعبة من الجنون.
وأما اللمم؛ فهو طرف من الجنون، ورجل ملموم؛ أي: به لمم، ويقال أيضا: أصابت فلانا من الجن لمة، وهو المس والشيء القليل. قاله الجوهري.
قلت: وأصل اللفظة من المقاربة، ومنه قوله تعالى: }الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ{([2])، وهي الصغائر.
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: وما رأيت أشبه باللمم مما قال أبو هريرة رضي الله عنه: إن العين تزني وزناها النظر، واليد تزني وزناها البطش، والرِّجل تزني وزناها المشي، والفم يزني وزناه القُبَل.
ومنه: ألمَّ بكذا؛ أي: قاربه ودنا منه، وغلام مُلم؛ أي: قارب البلوغ، وفي الحديث: «إن مما يُنبت الربيع ما يقتل حُبطا أو يُلم»؛ أي: يقرب من ذلك.
وبالجملة؛ فلا يستبين كون اللمم من أسماء الحب، وإن كان قد ذكره جماعة؛ إلا أن يقال: إن المحبوب قد ألمَّ بقلب المحب؛ أي: نزل به، ومنه المم بنا؛ أي: أنزل بنا، ومنه قوله:
متى تأتنا تُلمم بنا في ديارنا | ||
تجد حطبا جزلا ونارا تأججا | ||
وأما الخبل؛ فمن موجبات العشق وآثاره لا من أسمائه، وإن ذكر من أسمائه؛ فإن أصله الفساد، وجمعه خبول، والخبل بالتحريك الجن، يقال: به خبل؛ أي: شيء من أهل الأرض، وقد خبله وخبّله واختبله: إذا أفسد عقله أو عضوه، ورجل مخبل، وهو نوع من الجنون والفساد.
من كتاب روضة المحبين ونزهة المشتاقين
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]([size=19][1]) المجادلة: 16، المنافقون: 2.[/size]
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]([size=19][2]) النجم: 32.[/size]
SeIfElLaH- مجلس المدراء
- الأوسمة :
عدد المساهمات : 4497
نقاط : 6387
تاريخ التسجيل : 22/03/2010
العمر : 48
- مساهمة رقم 21
رد: آراء ابن القيم حول الإعاقة
لا طلاق لمجنون([1])
صح عن عثمان بن عفان -رضي الله عنه-: أنه قال: "ليس لمجنون ولا سكران طلاق". رواه ابن أبي شيبة، عن وكيع، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن أبان بن عثمان، عن أبيه...
وأما طلاق الإغلاق؛ فقد قال الإمام أحمد في رواية حنبل: وحديث عائشة -رضي الله عنها-: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا طلاق ولا عتاق في إغلاق»؛ يعني: الغضب.
هذا نص أحمد، حكاه عنه الخلال، وأبو بكر في "الشافي" و"زاد المسافر"؛ فهذا تفسير أحمد.
وقال أبو داود في "سننه": أظنه الغضب، وترجم عليه: "باب الطلاق على غلط".
وفسره أبو عبيد وغيره بأنه الإكراه، وفسره غيرهما بالجنون، وقيل: هو نهي عن إيقاع الطلقات الثلاث دفعة واحدة، فيغلق عليه الطلاق، حتى لا يبقى منه شيء؛ كغلق الرهن. حكاه أبو عبيد الهروي.
قال شيخنا ابن تيمية: وحقيقة الإغلاق أن يغلق على الرجل قلبه؛ فلا يقصد الكلام، أو لا يعلم به، كأنه انغلق عليه قصده وإرادته.
قلت: قال أبو العباس المبرد: الغلق: ضيق الصدر وقلة الصبر؛ بحيث لا يجد مخلصا.
قال شيخنا: ويدخل في ذلك طلاق المكره والمجنون ومن زال عقله بسكر أو غضب وكل من لا قصد له ولا معرفة له بما قال.
من كتاب
زاد المعاد في هدي خير العباد
([size=19][1]) المجنون: زوال العقل أو فساد فيه. "المعجم الوسيط".[/size]