من طرف SeIfElLaH الإثنين يناير 05, 2015 8:58 pm
من أصول
وقواعد أهل السُّنَّة في فهم
النُّصوص الشَّرعيَّة
لقد جاء الإسلامُ بقواعد واضحة لفهم النُّصوص الشَّرعيَّة، حتى لا تزلَّ الأقدامُ أو تضلَّ الأفهام.
وهذه القواعد ركيزةٌ رئيسةٌ لصحَّة الاستدلال، ولا يستطيع المرءُ أن يعرف مرادَ الله ومرادَ رسوله صلى الله عليه وسلم إلا إذا استقام فهمُه لدلائل الكتاب والسُّنَّة.
وما حدثت الأفكارُ والآراءُ والضَّلالاتُ إلَّا بسبب سوء الفهم.
ولو تُركت النُّصوصُ للنَّاس كُلٌّ يفهم منها حسبما يُمليه عليه فهمُه وعقلُه، لشَطَّ النَّاسُ في الفهم شططًا بعيدًا؛ لذلك كان لابُدَّ من أصول علميَّة نلتزم بها في فهم النُّصوص.
من هذه الأصول:
أولاً: وجوبُ الرُّجوع لمنهج السَّلف الصَّالح في فهم النُّصوص الشَّرعية:
قد يَقول قائل: لماذا يجب علينا اتِّباعُ منهج السَّلف دون غيرهم؟! أليسوا بشرًا كسائر البشر؛ فلماذا نخصُّهم بوجوب الاتِّباع؟!
وكما يقول كثيرٌ من الكتَّاب اليوم: هم رجالٌ ونحن رجالٌ.
فنقول: إنَّ السَّلفَ الصَّالحَ قد تميَّزوا بأمور لم تتوفَّر في غيرهم من هذه الأمَّة؛ فكانوا يمثِّلون الفهمَ الصَّحيحَ والتَّطبيقَ العمليَّ لما جاء في الكتاب والسُّنَّة.
وقد دلَّت الأدلَّةُ الشَّرعيَّةُ الكثيرةُ من جهات عدَّة على وجوب الرُّجوع لفهم السَّلف لنصوص الكتاب والسُّنَّة، ومن ذلك:
1- أنَّ اللهَ توعَّدَ من خالف طريقهم ومنهجهم بالعذاب الأليم: }وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا{ [النساء: 115]؛ فمَن سلك طريقًا في الفهم مخالفًا لطريق المؤمنين فقد توعَّدَه اللهُ بالعقاب الأليم، وأوَّلُ مَن يدخل في قوله: }سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ{ المؤمنون الأوائل الذين رضي اللهُ عنهم بنصِّ القرآن؛ }وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ{ [التوبة: 100].
قال عمر بن عبد العزيز- رحمه الله: «سَنَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وولاةُ الأمر بعدَه سُنَنًا الأخذُ بها اتِّباعٌ لكتاب الله، واستكمالٌ لطاعة الله، وقوَّةٌ على دين الله، ليس لأحد من الخلق تغييرُها، ولا تبديلها، ولا النَّظر في شيء خالَفَها؛ مَن اهتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن تركها اتَّبع غيرَ سبيل المؤمنين، وولَّاه اللهُ ما تولَّى، وأصلاه جهنمَ وساءت مصيرًا»([1]).
2- أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ باتِّباعهم والسَّير على منهجهم في قوله: «فعليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الرَّاشدين المهديِّين، عضّوا عليها بالنَّواجذ»([2]).
قال ابنُ القيِّم- رحمه الله: «وقد قرن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سنَّةَ أصحابه بسنَّته، وأمر باتِّباعها كما أمر باتِّباع سنَّته، وبالغ في الأمر بها حتى أمر بأن يُعَضَّ عليها بالنَّواجذ»([3]).
وعن حذيفة- رضي الله عنه- قال: «اتَّقوا اللهَ يا معشرَ القرَّاء، وخذوا طريقَ مَن كان قبلَكم؛ فلعمري لئن اتَّبعتموه لقد سبقتم سبقًا بعيدًا، ولئن تركتموه يمينًا وشمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيدًا»([4]).
أسير خلف ركاب النّجب ذا عرج
مؤمِّلاً كشفَ ما لاقيتُ من عوج
فإن لحقتُ بهم من بعد ما سبقوا
فكم لربِّ الورى في ذاك من فرج
وإن بقيتُ بظهر الأرض منقطعًا
فما على عَرَج في ذاك من حرج
3- أنَّ السَّلفَ الصَّالحَ هم أفضل هذه الأمَّة وخيرُها علمًا وعملاً؛ قال صلى الله عليه وسلم: «خيرُ النَّاس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم»([5]).
قال ابنُ تيمية- رحمه الله: «ومن المعلوم بالضَّرورة لمن تدبَّر الكتابَ والسُّنَّة وما اتَّفق عليه أهل السُّنَّة والجماعة من جميع الطَّوائف، أنَّ خيرَ قرون هذه الأمَّة في الأعمال والأقوال والاعتقاد وغيرها من كلِّ فضيلة أنَّ خيرَها القرنُ الأوَّلُ، ثمَّ الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم؛ كما ثبت ذلك عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم من غير وجه، وأنَّهم أفضلُ من الخلف في كلِّ فضيلة من علم، وعمل، وإيمان، وعقل، ودين، وبيان، وعبادة، وأنَّهم أولى بالبيان لكلِّ مُشْكل؛ هذا لا يدفعه إلَّا مَن كابر المعلوم بالضَّرورة من دين الإسلام، وأضلَّه اللهُ على علم، وما أحسن ما قال الشَّافعيُّ في رسالته: هم فوقنا في كلِّ علم، وعقل، ودين، وفضل، وكلِّ سبب ينال به علم، أو يدرك به هدىً، ورأيُهم لنا خيرٌ من رأينا لأنفسنا»([6]).
4- أنَّ التَّمسُّكَ بما كانوا عليه سببٌ للنَّجاة عند وقوع الفتن والاختلاف والتَّفرُّق؛ عن عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ بني إسرائل تفرَّقت على ثنتين وسبعين ملَّة، وتفترق أمَّتي على ثلاث وسبعين ملَّة؛ كلُّهم في النَّار إلَّا ملَّة واحدة».
قالوا: ومن هي يا رسول الله؟
قال: «ما أنا عليه وأصحابي»([7]).
وهذا يدلُّ على أنَّ فيصلَ التَّفريق بين الحقِّ والباطل باتِّباع الصَّحابة فيما كانوا عليه.
5- أنهم أعلمُ بمراد الله تعالى ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم من غيرهم؛ وهذه من أهمِّ مميِّزاتهم التي تجعل منهجَهم وطريقَهم هو المقدَّمُ.
وذلك: «لما خصَّهم اللهُ تعالى به من توقُّد الأذهان، وفصاحة اللِّسان، وسعة العلم، وسهولة الأخذ، وحسن الإدراك وسرعته، وحسن القصد وتقوى الرَّبِّ تعالى.
فالعربيَّةُ طبيعتُهم وسليقتُهم، والمعاني الصَّحيحة مركوزةٌ في فطرهم وعقولهم، ولا حاجةَ بهم إلى النَّظر في الإسناد وأحوال الرُّواة وعلل الحديث والجرح والتَّعديل، ولا إلى النَّظَر في قواعد الأصول وأوضاع الأصوليِّين؛ بل قد غُنُوا عن ذلك كلِّه؛ فليس في حقِّهم إلا أمران:
أحدهما: قال الله تعالى كذا وقال رسوله كذا.
والثاني: معناه كذا وكذا.
وهم أسعد النَّاس بهاتين المقدِّمتين، وأحظى الأمَّة بهما؛ فقواهم متوفِّرةٌ مجتمعةٌ عليهما»([8]).
وهم إلى فَهم النُّصوص ودلالاتها أقربُ من غيرهم؛ لأنَّ القرآنَ يَتَنَزَّل عليهم بألسنتهم ([9]) والنَّبيّ صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم يبيِّن لهم ما نزل إليهم، وما أشكل عليهم في شتَّى مسائل الدِّين.
وقد أخذوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم «لفظ القرآن ومعناه»؛ كما قال ابنُ تيمية- رحمه الله ([10]).
فتعلَّموا القرآنَ بنصوصه ومعانيه، وقواعده وضوابطه، وتركهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم على ملَّة قويمة مستقرَّة، ومحجَّة بيضاء ناصعة، لا خفاء فيها ولا غموض، ولا لبس ولا إبهام؛ «قد تركتُكم على المحجة البيضاء ليلُها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلَّا هالكٌ»([11])؛ فكلُّ ما خفي وأشكل واشتبه فبيانُه وجلاؤُه في علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال عمر بن الخطاب لابن عبَّاس- رضي الله عنهم: «كيف تختلف هذه الأمَّة ونبيُّها واحد، وقبلتها واحدة؟!
فقال ابن عبَّاس- رضي الله عنهما: «يا أميرَ المؤمنين؛ إنَّما أُنزل علينا القرآنُ فقرأناه، وعلمنا فيمن نزل، وإنَّه سيكون بعدنا أقوامٌ يقرؤون القرآنَ ولا يدرون فيمَن نزل، فيكون لهم فيه رأي، فإذا كان لهم فيه رأي اختلفوا، فإذا اختلفوا اقتتلوا...»([12]).
قال الشَّاطبيُّ- رحمه الله: «فلهذا كلِّه يجب على كلِّ ناظر في الدَّليل الشَّرعيِّ مراعاة ما فهم منه الأولون، وما كانوا عليه في العمل به؛ فهو أحرى بالصَّواب، وأقومُ في العلم والعمل»([13]).
وقال الحافظُ ابنُ رجب الحنبليّ- رحمه الله: «فالعلمُ النَّافعُ من هذه العلوم كلِّها: ضبطُ نصوص الكتاب والسُّنَّة وفهم معانيها، والتَّقَيُّد في ذلك بالمأثور عن الصَّحابة والتَّابعين وتابعيهم في معاني القرآن والحديث، وفيما ورد عنهم من الكلام في مسائل الحلال والحرام، والزُّهد والرَّقائق والمعارف وغير ذلك»([14]).
وقال الحافظ ابنُ عبد الهادي- رحمه الله: «ولا يجوز إحداثُ تأويل في آية أو سنَّة لم يكن على عهد السَّلف، ولا عرفوه ولا بيَّنوه للأمَّة؛ فإنَّ هذا يتضمَّن أنَّهم جهلوا الحقَّ في هذا وضلُّوا عنه، واهتدى إليه هذا المعترض المستأخر»([15]).
وقال ابنُ تيمية- رحمه الله: «مَن فسَّر القرآنَ أو الحديث وتأوَّله على غير التَّفسير المعروف عن الصَّحابة والتَّابعين، فهو مفتر على الله، ملحدٌ في آيات الله، محرِّفٌ للكلم عن مواضعه؛ وهذا فتحٌ لباب الزَّندقة والإلحاد، وهو معلوم البطلان بالاضطرار من دين الإسلام»([16]).
وأمَّا القولُ بأنَّ السَّلفَ بشرٌ غير معصومين فكيف نُلزَم باتِّباعهم؟
فجوابه: أنَّ العصمةَ للمنهج لا للأفراد؛ فالأفرادُ غيرُ معصومين؛ أمَّا المنهجُ الذي ساروا عليه فهو المعصوم الذي لا يدخله خللٌ، ولا يعتريه نقصٌ؛ لأنَّ الأمَّةَ لا تجتمع على ضلالة، وملخَّصُ منهجهم اتِّباعُ الكتاب والسُّنَّة وعدمُ معارضتهما بآراء الرِّجال واعتماد لغة العرب أساسًا في فهم هذين الأصلين.
ثانيًا: الرُّجوعُ إلى لغة العرب في فهم المراد من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فقد شاء اللهُ تعالى أن تكون رسالتُه الخاتمة إلى البشريَّة باللُّغة العربيَّة، }إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ{ [يوسف: 2]، }كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ{ [فصلت: 3]، }إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ{ [فصلت: 3]، }إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون{. [الزخرف: 3]، }وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ{ [الأحقاف: 12].
وقد يكون من وجوه الحكمة في ذلك أنَّ هذه اللُّغةَ بَلَغَت في سلَّم اللغات الإنسانيَّة الذّروةَ في سعة الألفاظ، وفي ثراء أساليب النَّظم؛ ممَّا جَعَلَها أكفأَ اللُّغات في حمل المعاني، وأقدرها على أدائها؛ فالقرآنُ عربيٌّ في ألفاظه، وفي تراكيب تلك الألفاظ، وفي أساليبه ومعانيه؛ فمعاني كتاب الله تعالى موافقةٌ لمعاني كلام العرب، كما أنَّ ألفاظَه موافقةٌ لألفاظها، ولهذا فلا يمكن لأحد أن يفهم كلامَ الله ورسوله إلَّا من هذه الجهة.
قال الشاطبيُّ- رحمه الله: «فعلى النَّاظر في الشَّريعة والمتكلِّم فيها أصولاً وفروعًا ... أن لا يتكلَّمَ في شيء من ذلك حتى يكون عربيًّا، أو كالعربيِّ في كونه عارفًا بلسان العرب ... فإن لم يبلغ ذلك فحسبُه في فهم معاني القرآن التَّقليدُ، ولا يحسن ظنه بفهمه دون أن يسأل فيه أهل العلم به»([17]).
وما زال السَّلفُ ومَن كان على هديهم يستدلُّون على معاني الكتاب والسُّنَّة بكلام العرب من شعر وغيره.
قال ابنُ تيمية- رحمه الله: «فمعرفةُ العربيَّة التي خوطبنا بها ممَّا يُعين على أن نفقه مرادَ الله ورسوله بكلامه، وكذلك معرفة دلالة الألفاظ على المعاني؛ فإنَّ عامَّةَ ضلال أهل البدع كان بهذا السَّبب؛ فإنَّهم صاروا يحملون كلامَ الله ورسوله على ما يدَّعون أنَّه دالٌّ عليه، ولا يكون الأمرُ كذلك»([18]).
ولذلك قال الحسنُ- رحمه الله: «أهلكتهم العجمةُ يتأوَّلونه على غير تأويله»([19]).
وقال الإمامُ الشَّافعيُّ: «ما جهل النَّاس ولا اختلفوا إلَّا لتركهم لسانَ العرب وميلهم إلى لسان أرسطاطاليس»([20])؛ فمَن أراد تفهُّمَ كتابَ الله فمن جهة لسان العرب يُفهم، ولا سبيلَ إلى تطلُّب فهمه من غير هذه الجهة ([21]).
وقال الإمام مالك- رحمه الله: «لا أُوتى برجل غير عالمٍ بلغة العرب يفسِّر كتاب الله إلا جعلتُه نكالاً»([22]).
وروي عن مجاهد- رحمه الله- أنَّه قال: «لا يحلُّ لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلم في كتاب الله إذا لم يكن عالمًا بلغات العرب»([23]).
وقال أبو عبيد: سمعتُ الأصمعيَّ يقول: سمعتُ الخليلَ بنَ أحمد يقول: سمعت أيوب السِّختيانيّ- رحمه الله- يقول: «عامَّةُ مَن تزندق بالعراق لقلَّة علمهم بالعربيَّة»([24]).
فعدمُ المعرفة بلسان العرب تؤدِّي للخطأ في فهم مراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن أمثلة ذلك:
قولُ مَن زعم أنَّه يجوز للرَّجل نكاحُ تسع من النساء؛ مستدلًّا بقوله تعالى: }فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ{ [النساء: 3]، وجمع أربع إلى ثلاث إلى اثنتين يساوي تسع.
قال القرطبيُّ- رحمه الله: «وهذا كلُّه جهلٌ باللِّسان ... فإنَّ اللهَ تعالى خاطب العربَ بأفصح اللُّغات، والعربُ لا تدع أن تقول تسعة، وتقول اثنين وثلاثة وأربعة.
وكذلك تَستقبح ممَّن يقول: أعط فلانًا أربعة ستة ثمانية، ولا يقول ثمانية عشر»([25]).
فالمرادُ بالآية التَّخييرُ بين تلك الأعداد لا الجمع، ولو أراد الجمعَ لقال تسع، ولم يعدل عن ذلك إلى ما هو أطول منه وأقلّ بيانًا ([26]).
وقولُ مَن زَعَمَ أنَّ المحرَّمَ من الخنزير إنَّما هو اللَّحم، وأمَّا الشَّحم فحلال؛ لأنَّ القرآن إنَّما حرَّم اللَّحمَ دونَ الشَّحم في قوله: }حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ{ [المائدة: 3].
ولو عرف أنَّ اللَّحمَ يُطْلَقُ على الشَّحم أيضًا في لغة العرب؛ بخلاف الشَّحم؛ فإنَّه لا يُطْلَقُ على اللَّحم، لم يقل ما قال ([27]).
وقولُ مَن زعم أنَّ معنى قوله تعالى: }فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ{ [الأنبياء: 87].
أي يفوتنا، ولو علم أنَّ معنى نقدر: نضيِّق، لم يخبط هذا الخبط.
واعتقاد بعضهم أنَّ قولَه تعالى: }يَأْتُوكَ رِجَالًا{ [الحج: 27]- أنَّ المرادَ بالآية الرِّجال؛ ولذلك يكتبون هذه الآيةَ في التَّمائم للفتاة البكر ليأتيها الرَّجلُ ويتزوَّجها!! وإنَّما معنى الآية مشاة على أرجلهم.
قال الشَّاطبيُّ- رحمه الله- معلِّقًا على حال هؤلاء الذين يفسِّرون القرآنَ بغير علم: «تخرصهم على الكلام في القرآن والسُّنَّة العربيَّين مع العرو عن علم العربية الذي يفهم به عن الله ورسوله، فيفتاتون على الشَّريعة بما فهموا، ويدينون به، ويخالفون الرَّاسخين في العلم؛ وإنَّما دخلوا ذلك من جهة تحسين الظَّنِّ بأنفسهم واعتقادهم أنَّهم من أهل الاجتهاد والاستنباط، وليسوا كذلك.
كما حكي عن بعضهم أنَّه سئل عن قول الله تعالى: }رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ{ [آل عمران: 117]([28]) فقال: هو هذا الصرصر»([29]).
ثالثًا: الرُّجوعُ للقواعد والأصول التي وَضَعَها السَّلَفُ في فهم النُّصوص:
كان للسَّلف قواعدُ ومبادئُ يسيرون عليها في فهمهم للنُّصوص الشَّرعيَّة، وأوَّلُ مَن جَمَعَ هذه القواعد وبيَّنَها وشرحَها الإمامُ الشَّافعيُّ في كتابه [الرِّسالة] الذي كان نواةً لما أُلِّف بعده من كتب علم [أصول الفقه].
والتي تُعنَى بجمع القواعد التي تضبط استنباطَ الأحكام الشَّرعيَّة من نصوص الكتاب والسُّنَّة؛ ولذلك يشنُّ أصحابُ بدعة [إعادة قراءة النَّصّ] حملةً شعواء على الإمام الشَّافعيِّ وكتابه الرِّسالة؛ يقول أركون عن الإمام الشَّافعيِّ وكتابه الرِّسالة: «قد ساهم في سجن العقل الإسلاميِّ داخلَ أسوار منهجيَّة معيَّنة»([30]).
ويقولُ عن تحديد الإمام الشَّافعيِّ لمصادر التَّشريع الإسلاميِّ بأنَّها الكتابُ والسُّنَّةُ والإجماعُ والقياسُ: «هذه هي الحيلةُ الكبرى التي أتاحت شيوعَ ذلك الوهم الكبير بأنَّ الشَّريعةَ ذات أصل إلهيٍّ»([31]).
وهو عند الجابريّ: «المشرِّع الأكبر للعقل العربيّ»؛ لأنَّه جعل: «النَّصّ هو السُّلطة المرجعيَّة الأساسيَّة للعقل العربيّ وفاعليَّاته»([32]).
وأمَّا الشَّرفيُّ فيُصرِّحُ قائلاً: «من غير المقبول اليومَ أن نتمسَّكَ بمنهج الشَّافعيِّ الأصوليِّ؛ إذ فهمُ الكتاب والسُّنَّة على نحو فهم الشَّافعيّ وتأويلُه لا يؤدِّيان إلَّا إلى مأزق منهجيٍّ لا عهدَ للأسلاف به»([33]).
ويطالبُ أصحابُ هذه المدرسة بوضع قواعد جديدة لأصول الفقه.
يقول الجابري: «إنَّما نريد أن يتَّجه تفكيرُ المجتهدين الرَّاغبين في التَّجديد حقًّا والشَّاعرين بضرورته فعلاً إلى القواعد الأصوليَّة نفسها، إلى إعادة بنائها بهدف الخروج بمنهجيَّة جديدة تواكب التَّطَوُّرَ الحاصلَ»([34]).
ويقولُ كذلك مبرِّرًا دعوتَه إلى تغيير علم أصول الفقه: «ولا شيءَ يَمنع من اعتماد قواعد منهجيَّة أخرى إذا كان من شأنها أن تحقِّقَ الحكمةَ من التَّشريع في زمن معيَّن بطريقة أفضل»([35]).
ويقولُ محمَّدٌ الشَّرَفيُّ: «وقواعدُ الفقه التي وَضَعَها الفقهاء ليست في حقيقتها ذات طبيعة دينيَّة؛ وإنَّما هي قواعدُ من وضع بشر، فكانت منافيةً للعدل والمساواة وحقوق الإنسان»([36]).
والهدفُ من هذه الدَّعوة التَّفلُّت من القواعد والضَّوابط التي وضعها العلماء للاستنباط؛ حتَّى يتسنَّى لهم العبث بالنُّصوص الشَّرعيَّة كما شاؤوا. ([1]) حلية الأولياء (6/324). ([2]) رواه الترمذي (2600) وأبو داود (3991) وصححه الألباني في صحيح الجامع (4314). ([3]) إعلام الموقعين (4/140). ([4]) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (3/184). ([5]) رواه البخاري (2458). ([6]) مجموع الفتاوى (4/157). ([7]) رواه الترمذي (2641) والحديث حسنه الألباني في صحيح الجامع (9474). ([8]) إعلام الموقعين (4/149). ([9]) وممَّا يؤكِّد هذا ما جاء عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- أنه قال: «والذي لا إله غيره ما من كتاب الله سورة إلا أنا أعلم حيث نزلت، وما من آية إلا أنا أعلم فيم أنزلت، ولو أعلم أحدًا هو أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لركبت إليه». رواه مسلم في صحيحه (2463). وروى ابنُ إسحاق عن مجاهد، قال: «عرضت القرآن ثلاث عرضات على ابن عبَّاس، أقفه عند كلِّ آية، أسأله فيم نزلت، وكيف كانت». سير أعلام النُّبلاء (4/450). ([10]) مجموع الفتاوى (13/384). ([11]) سنن ابن ماجه (43) وصححه الألباني في صحيح الجامع (7818). ([12]) فضائل القرآن للقاسم بن سلام (103). ([13]) الموافقات (3/77). ([14]) فضل علم السلف (6). ([15]) الصارم المنكي (1/497). ([16]) مجموع الفتاوى (13/243). ([17]) الاعتصام (1/503). ([18]) مجموع الفتاوى (7/116). ([19]) الاعتصام (1/503). ([20]) سير أعلام النبلاء (10/74). ([21]) الموافقات (2/64). ([22]) شعب الإيمان للإمام البيهقي (2/425). ([23]) البرهان في علوم القرآن (1/292). ([24]) كتاب الزينة لأبي حاتم (86). ([25]) تفسير القرطبي (5/17). ([26]) التسهيل لابن جزي (1/232). ([27]) ينظر: تفسير القرطبي (2/222)، تفسير ابن كثير (3/16). ([28]) صر: برد شديد. لسان العرب (4/450) مادة: صرر. ([29]) أي: صرار الليل، ينظر: الاعتصام (1/179). ([30]) تاريخية الفكر العربي الإسلامي (74). ([31]) تاريخية الفكر العربي الإسلامي (297). ([32]) الجابري تكوين العقل العربي (105)، بنية العقل للجابري (22). ([33]) لبنات لعبد المجيد الشرفي (143). ([34]) وجهة نظر (63). ([35]) وجهة نظر (62). ([36]) الإسلام والتاريخ لمحمد الشرفي (64).عدل سابقا من قبل SeIfElLaH في الخميس يناير 08, 2015 8:48 pm عدل 1 مرات