المقدمة
الحمد لله الذي جعل في السماء بروجا, وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا، والصلاة والسلام على من بعثه ربه هاديا ومبشرا ونذيرا ([size=24][1]).[/size]
أما بعد:
فإن الإنسان مهما أوتي من علم وإبداع وتقنيات واختراعات، سيظل هو ابن بيئته وأرضه وإن اخترق الفضاء وقطع المسافات والأرجاء ومهما أوتي من قوة وتفكير, فلن يستطيع أن يغير الكثير مما أودعه الله وجعله الله في هذه الخليقة وفي هذا الكون الفسيح، قال الله تعالى: }وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ{ [يوسف: 21] وقد أمر سبحانه عباده بالنظر والتفكر والإبداع، قال الله تعالى: }الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ{ [آل عمران: 191]، وقال الله تعالى: }قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ{ [يونس: 101].
فهذا الكون وما فيه من حكم باهرات، وآيات بالغات، وأسرار وعظات، يدعو كل مسلم بل كل عاقل لإعمال العقل والقلب والسمع والبصر في كل ما يحيط به، فتفكر – أخي في الله – في نفسك التي بين جوانحك وتفيَّأ قول ربك }وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ{ [الذاريات: 21] ثم انطلق وسافر عبر هذا الكون وتذكر قول مولاك }لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ{ [غافر: 57] وقوله تعالى: }أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا{ [النازعات: 27].
فتلمس ما فيه من أسرار، وقف وقفة العبد المشفق على نفسه, المقر بعظمة ربه, وثق أن الله سيفتح لك أبواب فضله ورحمته، فمن أنار الله بصيرته فسينفذ ويتجاوز السماء وما فيها من نجوم وكواكب وأقمار ويتجاوز الأرض وما فيها من سهول ووهاد ومن جبال وتلال وبحار وقفار، ويجول ببصيرته قبل بصره في ملكوت هذا الكون الذي يشهد بعظمة خالقه، ولن تلبث إلا أن تفتح لك أبواب المعرفة والإيمان مصاريعها حتى ينتهي بك المطاف إلى الإذعان بعظمة هذا الخالق, ويثبت قلبك وتطرق هيبة وخشوعا لمولاك وسيدك، فيثمر ذلك سعادة وحياة ولذة بل وتحيا في جنة الحياة قبل جنة الخلد، وستجد ذلك مستقرًا في سويداء قلبك مهما اعترتك نوائب الدهر وخطوب الزمان.
وتذكر أنك مهما نقلت فؤادك, فلن يستقر ويطمئن إلا لحبيبه الأول, وموجده ربه ووليه سبحانه وتعالى الذي ليس لك من دونه ولي ولا شفيع ولا غنى لك عنه طرفة عين، ولا تكن - يا رعاك الله – ممن خرج من هذه الدنيا ولم يُذِقْ أطيب ما فيها وهل تدري ما أطيب ما فيها، إنه: (معرفة الله، ومحبته، والأنس بقربه والشوق إلى لقائه).
ولقد أكثر سبحانه من ذكر التفكر والتدبر في كتابه الكريم، فالتفكر والتذكر هما قطبا السعادة، ومعين هذا الدين الذي لا ينضب، فالتفكر في حد ذاته عبادة، وكما قيل الفكرة تذهب الغفلة، وتحدث للقلب خشية، والتذكر يحدث بإذن الله تعالى، عند العبد رجوعًا وإنابةً وخضوعًا وعبادةً، ويعلم ذلك المنيب أن كل معصية مهما صغرت فهي عظيمة في جنب عظمة الخالق سبحانه وتعالى, وكما قيل (لا تنظر إلى صغر المعصية ولكن انظر إلى عظمة من عصيت)، كيف لا؛ والمعصية شرخ في بنيان العبودية والتوحيد.
وله في كل شيء | ||||
آية تدل على أنه الواحد | ||||
فيا عجبا كيف يعصى الإله | ||||
أم كيف يجحده الجاحد | ||||
وقفة تأمل وتدبر:
مما لا شك فيه أن للتذكير بما يوافق الأحوال والأزمان الأثر البالغ لمن رزقه الله قلبًا واعيًا، ونفسًا مؤمنة، قال تعالى: }إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ{ [ق: 37] فها هو كتاب ربنا جل وعلا يذكرنا بما أودع سبحانه في هذا الكون من آيات كونية؛ فهو الكتاب المنظور الناطق بعظمة موجده وخالقه، قال تعالى: }أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ{ [الأعراف: 185] وقوله تعالى: }سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ{ [فصلت: 53] ونعوذ بالله أن نكون ممن وصفهم ربهم فقال عنهم }فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ{ [الأحقاف: 26] بل إنه سبحانه وَصف من أعرض عن النظر والتدبر في ملكوته ومخلوقاته سبحانه بِشَرِّ وَصْفٍ فقال عنهم }قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ{ [يونس: 101] وقال عز من قائل: }وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ{ [محمد: 12] فالمؤمن من تحرك قلبه وتذرف عينه كل ذرة وكل نسمة ولك آية تذكرة بمولاه؛ فيلهج من سويداء قلبه: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك وما قدرناك حق قدرك }رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ{ [آل عمران: 191] وهاأنت حين تقلب النظر وتجول بالفكر وتتلو باللسان كلام الرب المنان, قلَّ أن تجد سورة من سور القرآن إلا وفيها ذكر السموات والأرض، والليل والنهار، والشمس والقمر، والجبال والبحار إما إخبارا عن عظمتها أو إقساما بها، وإما دعوة للنظر والتأمل فيها، وإما تدليلاً منه جل وعلا بربوبيته وألوهيته وإما دعوة إلى توحيده والخضوع له، }تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا{ [الإسراء: 44] فكل ما في هذا الكون من الذرة إلى المجرة وما فوقها يسبح لله ويذعن بربوبيته وألوهيته، وذكر هذه الآيات فيه من الحكم ما الله به عليم، قال تعالى: }إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ{ [آل عمران: 190] ويكفي العبد من ذلك كله قوله تعالى }وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا{ [الفرقان: 47]، فمسكين ذلك الإنسان المتمرد على خالقه، الظالم لنفسه }* يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ{ [الانفطار: 5، 6] ولكن صدق الله في وصف هذا المخلوق }إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا{ [الأحزاب: 72] }إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ{ [إبراهيم: 34] }قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ{ [عبس: 17] }وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ{ [يوسف: 103] بل ويتمادى ويماري ويجادل فيمن خلقه وأوجده من العدم }أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ{ [يس: 77] فعجيب أمر هذا الإنسان، قال تعالى: }وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا{ [النساء: 28] }خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ{ [الطارق: 6] خلق من نطفة قذرة ويحمل في جوفه العذرة، وإذا مات أصبح جيفة منتنة تبحث عمن يواريها؛ لتعود فيما خلقت منه في رحلة هي مهما طالت فإنها قصيرة مشوبة بالآلام والأكدار، قال تعالى: }مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ{ [طه: 55] }مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ{ [عبس: 19-21] بل ترى ذلك الكافر الذي طمس الله بصيرته في الدنيا حينما يرى البهائم أمام ناظريه تتهاوى ترابا يقول بلسان الحسرة }يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا{ [النبأ: 40] وينسى أنه يوما ما لم يترفع عن التراب بل ترفع عن الناس وعن كلام الحق بل وعن العبادة لرب الناس، ورب العباد، قال تعالى: }وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ{ [الأعراف: 172].
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]([1]) أصل هذه الكلمة خطبة جمعة، وقد رغب بعض الأحبة في تدوينها وطباعتها؛ لأجل أن تعم الفائدة، فاستجبت للطلب رغبة في الأجر والثواب، والله أسأل أن ينفع بها، وأن يتجاوز عما وقع فيه من خلل وتقصير.