التمهيد في بيان
هل الأصل في الشريعة التعبد أو التعليل؟
وتحت هذه المسألة النقاط الآتية:هل الأصل في الشريعة التعبد أو التعليل؟
1- تحرير محل النزاع.
2- الأقوال والأدلة.
3- الرأي الراجح ودليل الترجيح.
4- أثر الخلاف وثمرته.
1- تحرير محل النزاع
وذلك في أمور ثلاثة:
الأمر الأول: أن كلا من التعبد والتعليل له معنى عام ومعنى خاص.
أولا: المعنى العام لكل من التعبد والتعليل:
التعبد بمعناه العام هو: ما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا»([1])، وعبادته -سبحانه- هي: امتثال أوامره واجتناب نواهيه بإطلاق.
وبهذا يعلم أن علة التعبد العامة هي: الانقياد لأوامر الله -تعالى- وإفراده بالخضوع والتعظيم لجلاله والتوجه إليه؛ كما قال -سبحانه-: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56].
وبناء على ذلك فيمكن أن يقال: الشريعة كلها تعبدية.
وأما التعليل بمعناه العام هو: ما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «حق العباد على الله إذا عبدوه ولم يشركوا به شيئًا ألا يعذبهم»([2])، وهذا يفيد أن هذه الشريعة إنما وضعت لمصالح العباد عاجلا وآجلا.
ومن هنا يعلم أن أحكام الله -سبحانه وتعالى- معللة بالحِكم ورعاية المصالح، وأن جميع الأوامر والنواهي مشتملة على حِكم جليلة ومصالح عظيمة.
وبناء على ذلك فيمكن أن يقال: الشريعة كلها معللة.
ثانيًا: المعنى الخاص لكل من التعبد والتعليل:
التعبد بمعناه الخاص هو: ما لا يُعقل معناه من الأحكام على الخصوص، ولا تدرك علته، وهو ما يسمى بالأمور التعبدية.
ومثالها: تحديد أعداد الركعات في الصلوات الخمس، وتحديد مقادير الأنصبة في الأموال التي تجب فيها الزكاة، ومقادير ما يجب فيها، ومقادير الحدود والكفارات، وفروض أصحاب الفروض في الإرث([3]).
وهذا التعبد واقع في الشريعة؛ فإن بعض الأحكام قد تخفى علتها.
وأما التعليل بمعناه الخاص فهو: كون الحكم متضمنًا لمعنى مناسب ومصلحة يدركها العقل([4]) .
ونصوص القرآن والسنة طافحة بتعليل الأحكام ووجوه الحِكم، فمن الأمثلة على ذلك في القرآن الكريم([5]):
أنه تارة يذكر ذلك بلام التعليل الصريحة؛ كقوله -تعالى-: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ [البقرة: 143].
وتارة يذكر "كي" الصريحة في التعليل، كقوله -تعالى-: ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ﴾ [الحشر: 7].
وتارة يذكر "من أجل" الصريحة في التعليل؛ كقوله -تعالى-: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [المائدة: 32].
وتارة يذكر "لعل" المتضمنة للتعليل المجردة عن معنى الرجاء المضاف إلى المخلوق؛ كقوله -تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183].
وتارة يذكر المفعول له؛ كقوله-تعالى-: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل: 89].
وتارة ينبه على السبب بذكره صريحًا؛ كقوله -تعالى-: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ﴾ [النساء: 160، 161].
وتعليل أفعال الله -سبحانه- لا يلزم منه -على مذهب السلف- القول بأنه يجب على الله رعاية مصالح العباد؛ ذلك لأن السلف يثبتون لله كمال القدرة والحكمة، ولا يشبهونه بشيء من خلقه، ولأجل ذلك يقولون:
"إن الله خالق كل شيء ومليكه، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو على كل شيء قدير، ويفعل -سبحانه- ما يفعل بأسباب ولحكم وغايات محمودة فله المشيئة العامة والقدرة التامة، والحكمة البالغة"([6]).
ولا يجب عليه -سبحانه- شيء فيما يحكم ويقضي؛ إذ لا يجوز قياسه على خلقه ([7]) : ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء: 23]، لذا فإن القول: بأن العلة مجرد علامة محضة لا يصح، لكونه مبنيًا على إنكار التعليل في أفعال الله، بل العلة هي الوصف المشتمل على الحكمة الباعثة على تشريع الحكم([8]).
الأمر الثاني: أن إجراء القياس في الأحكام الشرعية لا يمكن إلا بعد معرفة العلة وتعقل المعنى:
وبناء على ذلك فالقياس إنما يسوغ إجراؤه في الأحكام المعللة، وأما في الأحكام التعبدية غير المعللة فلا يمكن فيها إجراء والقياس بحال.
قال الطوفي عند بيانه لشروط القياس: "الشرط الثالث: أن يكون الأصل معقول المعنى، إذ لا تعدية بدون المعقولية، أي: ما لا يعقل معناه لا يمكن القياس فيه؛ لأن القياس تعدية حكم المنصوص عليه إلى غيره، وما لا يعقل لا يمكن تعديه، كأوقات الصلوات وعدد الركعات"([9]).
وقال الشاطبي: "ذلك أن التعبد راجع إلى عدم معقولية المعنى، وبحيث لا يصح فيه إجراء القياس.
وإذا لم يعقل معناه دل على أن قصد الشارع فيه الوقوف عند ما حدَّه لا يُتعدى"([10]).
الأمر الثالث: محل النزاع في هذه المسألة إنما هو في الأصل الغالب في أحكام الشريعة: هل هو التعبد أو التعليل؟
حيث الاتفاق واقع على أن أحكام الشريعة منها ما هو تعبدي، لا تعرف له علة، ومن هذه الأحكام أيضًا ما هو معلل بنص الكتاب والسنة.
قال الطوفي: "الأحكام إما غير معلل؛ كالتعبدات أو معلل؛ كالحجر على الصبي لضعف عقله حفظًا لماله"([11]).
فمحل الخلاف إذن فيما عدا ذلك من الأحكام: ما الأصل فيها؛ هل تحمل على التعبد أو على التعليل؟
([1])أخرجه البخاري (7/308) برقم (2856)، ومسلم برقم (30).
([2])هو تتمة للحديث السابق ولكن بلفظ: «حق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا».
([3])علم أصول الفقه للشيخ عبد الوهاب خلاف ص(62).
([4])انظر: شفاء العليل لابن القيم ص(190)، ومفتاح دار السعادة (2/22)، ومذكرة الشنقيطي ص(275).
([5])انظر: مفتاح دار السعادة (2/22)، وشفاء العليل لابن القيم ص(188-196).
([6])انظر: مجموع الفتاوى (8/97، 99)، وشفاء العليل لابن القيم ص(206).
([7])انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (2/776).
([8])انظر: مجموع الفتاوى (8/485)، ومذكرة الشنقيطي ص(275).
([9])شرح مختصر الروضة (3/301).
([10])الموافقات (2/318).
([11])شرح مختصر الروضة (3/275).