إنها ليلة ذات فضل عظيم، هي أحرى بأن يسمع فيها الخطاب، ويرد الجواب، ويفتح الباب، وتعتق الرقاب.
ولك أن تعلم أخي القارئ: أنها ليست مبهمة في قرن كامل, ولا في شهر كامل, ولا في سنة كاملة، ولو كان كذلك لحق شرفها، ولكنها بين عشر ليال فقط، وقد بين صلى الله عليه وسلم أن أحرى هذه العشر أوتارها فما أرحم المعبود بالعبد، وما أرأف الخالق بالمخلوق.
إنها عشر ليال فقط: فيها - قطعًا وجزمًا - هذه الليلة المباركة، إنها العشر الأواخر من رمضان، التي لا يحرم خيرها إلا من أراد الله له الحرمان، وابتلي بالخذلان.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحرى هذه الليلة في شهر كامل، فقد تحراها في العشر الأوائل، ثم الأواسط، ثم العشر الأواخر، وأمرنا بأن نتحراها في العشر الأواخر من رمضان، كما روى الشيخان قوله صلى الله عليه وسلم: «تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان».
وهي في الأوتار أقرب من الأشفاع، لقوله صلى الله عليه وسلم: «تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان». رواه البخاري.
بل أخي القارئ.. هي في السبع الأواخر أشد قربًا لحديث ابن عمر رضي الله عنهما (أن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر, فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر» متفق عليه.
وأقرب أوتار السبع البواقي في ليلة سبع وعشرين لحديث أبي بن كعب رضي الله عنه أنه قال: (والله, إني لأعلم أي ليلة هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها، هي ليلة سبع وعشرين) رواه مسلم.
قال شيخنا ابن عثيمين رحمه الله: (لا تختص ليلة القدر بليلة معينة في جميع الأعوام، بل تنتقل فتكون في عام ليلة سبع وعشرين مثلاً، وفي عام ليلة خمس وعشرين تبعًا لمشيئة الله وحكمته). (مجالس شهر رمضان ص110).
واستدل رحمه الله بقوله صلى الله عليه وسلم:«التمسوها في تاسعة تبقى في سابعة تبقى في خامسة تبقى ...» رواه البخاري. اهـ.
قال ابن حجر رحمه الله: (أرجح الأقوال أنها وتر من العشر الأخيرة, وأنها تنتقل) اهـ.
أخي المبارك, أيا كانت هذه الليلة إلا أنها في العشر الأخيرة، فهل استحوذ الشيطان علينا حتى لا نستطيع الاجتهاد الجاد في هذه العشر، أم أن الران قد أحكم على قلوبنا حتى لا نعرف الربح من الخسارة, فسابق أخي في طريق الهدى، ونافس في مضمار الخير. يقول أحدهم:
لليلة القدر عند الله تفضيل | |
| وفي فضائلها قد جاء تنزيل |
فجد فيها بخير تنال به | |
| أجرًا فللخير عند الرب تفصيل |
واحرص على فعل أعمال تسر بها | |
| يوم المعاد، ولا يغررك تأميل |
فكم رأينا صحيح الجسم ذا أمل | |
| في ليلة القدر لم يبلغه تنويل |
فتب إلى الله واحذر من عقوبته | |
| عن كل ما فيه توبيخ وتنكيل |
ولا تغرنك الدنيا وزخرفها | |
| فكل شيء سوى التقوى أباطيل |
|
|
|
النساء مع رمضان:
إن كل ما يجري للرجال من فضل في العمل في هذا الشهر، هو كذلك للمرأة، فالخطاب شامل لكلا الجنسين, وقد خصهن الله بنوع من الخطاب بقوله: }وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ{ وإن المرأة لها دور عظيم لا يغفل, ومن غفل دور المرأة في المجتمع عمومًا، وفي رمضان خصوصًا فقد جار في حكمه وقسمته، إلا أنني أذكرك أختي الفاضلة بأمر عظيم ربما تغفلين عنه وتجهلينه، ألا وهو أنك حينما تقضين هذه الساعات الطوال ما بين خدمة الزوج والأولاد والطهي والإيقاد، والتجهيز والإعداد تقومين بدور عظيم, ومن هذا المنطلق، لا ندعوك إلى ترك واجباتك المنزلية بحجة العبادة الجادة، كلا، ولا ندعوك أيضًا بحجة شرف الزمان بالتقصير الواضح المخل، كلا، ولكننا ندعوك إلى أمر عظيم، يجمع لك بين العمل الصالح وبين إتمام أمورك على أكمل وجه، أمر يسمو بك إلى العَليَا، أتدرين ما هو؟ إنه الاحتساب في كل ما تبذلين لله جل جلاله، فتعملين لا تعملين إلا لله، وتقدمين لا تقدمين إلا لله، فتحسنين النية الصالحة في الإحسان للزوج والأولاد, لا سيما في هذا الشهر الذي تضاعف فيه الحسنات.
وإنني أود أن انتقل معك أختي الفاضلة إلى نموذج من النماذج الرائعة، والصور الوضاءة، لامرأة من نساء المسلمين، إنها أسماء بنت يزيد بن عبد الأشهل، أتت النبي صلى الله عليه وسلم لتستفسر عن أمر حار في نفسها، وهو أن الرجال يحضرون مجلسه، ويجاهدون معه، وينفقون في سبيل الله، وأما النساء ففي بيوتهن يخدمن الرجال ويقمن بأعمالهن. فماذا قال لها المصطفى صلى الله عليه وسلم؟ قال: «أخبري من وراءك من النساء أن حسن تبعل إحداكن لزوجها يعدل ذلك كله».
فدلت هذه القصة الرائعة على أن أعمال المرأة لها دور عظيم في تنمية الأجر، ومضاعفة الحسنات إذا أصلحت نيتها لله جل وعلا. واعلمي أن هناك أعمالاً سهلة المنال لك كالذكر، فأوصيك بأن تلازمي الذكر فهو سهل على من سهله الله عليه، فتسبحين وأنت تعملين، وتكبرين وأنت تشرفين, ولعظيم شرفه ذكره سبحانه بقوله: }وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا{ [الأحزاب: 35].
فالزمي الذكر خصوصًا في هذه الأيام الفاضلة.
واحذري أختي الفاضلة أن يمضي شهرك, وهو جزء من عمرك، بين الذهاب والمجيء من سوق لآخر، ومن مناسبة لأخرى، والأسوأ من هذا إن جمعت مع الخروج والولوج طيبًا وعطرًا، ولباسًا كاشفًا، وشكلاً عاريًا، فضللت وأضللت.
واحرصي أختي الفاضلة حال خروجك، ولو لطاعة وقربة كصلاة التراويح – أن تكوني بحال المرأة المسلمة، لا المستسلمة لما يمليه العدو، من زي فاضح وتبرج واضح، واعلمي أن شهرك هو شهر العبادة والاجتهاد.
وإليك أختي الفاضلة فيمن هن قدوة بعد نبي الأمة صلى الله عليه وسلم وذلك من الصحابيات ومن حذا حذوهن، لأن النساء فيهن العابدات، والعالمات والصالحات، فهن لسن من كوكب آخر، أو مخلوقات غريبة، كلا, ويدل على ذلك نماذج من العابدات، فتأملي معي أيتها الأخت الفاضلة:
يقول الهيثم بن جماز: (كانت لي امرأة لا تنام بالليل – أي تصلي طوال الليل – وكنت لا أصبر على السهر، فكنت إذا انغمست في النوم ترش علي من الماء, وأنا في أثقل ما أكون من النوم، وتنبهني برجلها, وتقول لي: أما تستحي من الله! إلى كم هذا الغطيط؟ قال الهيثم: فوالله, إن كنت لأستحي مما تصنع. أي: من اجتهادها في العبادة وكسله ). (صفة الصفوة لابن الجوزي ج4).
وانظري أختي الفاضلة إلى هذه العبادة، قال أبو عبد الله البراثي: كانت زوجتي جوهرة توقظني من الليل, وتقول لي: يا أبا عبد الله، قد سارت القافلة. قال: ورأت في منامها خيامًا مضروبة، فقالت لمن هذه الخيام؟ فقيل لها: للمجتهدين بالقرآن. فكانت بعد ذلك لا تنام. (صفوة الصفوة لابن الجوزي 2/521).
أختي الفاضلة: هاتان صورتان مشرقتان، وغيرهما كثير، فهل لك أن تقربي من القوم، فتنهلي من حيث نهلوا.
فهذا هو مضمار المنافسة، قد دخل الصالحون في طوره، وبدأ الأبطال في عده، فلمَ تراجعت إلى الوراء؟!
ألست ستحضرين الحساب؟ وستأخذين الكتاب؟ وستقفين في المحشر عارية بلا ثياب؟ وستسألين ويوجه لك العتاب؟ بلى, والله, فادخلي المضمار ونافسي، ولا تقولي سوف وليت، فما أغنت أحدًا من حي, ولا ميت، وتمثلي قول أحدهم:
قم في ظلام الليل وارفع شكاية | |
| إلى الملك الأعلى، وقلبك خاشع |
وقل: يا رؤوفًا بالعباد ومحسنًا | |
| ببابك عبد من عبادك خاضع |
فكن راحمًا فقري وذلي وحالتي | |
| فعفوك مأمول وفضلك واسع |
ووفر نصيبي من عطاياك سيدي | |
| فما زلت تعطي من لبابك قارع |
أغث يا عظيم الطول عبدًا محاذرًا | |
| يرجوك في الغفران، بالعفو طامع |
|
|
|
أخي الفاضل .. أختي الفاضلة:
أحسنوا العمل قبل انتهاء الأجل، والله سنرحل عن الدنيا بلا مال, ولا ولد, ولا أهل، وسينتهي المطاف على عجل، أين أحبابنا، وأصحابنا، وإخواننا، انتهت أيامهم فرحلوا، والله, لنرحلن كما رحلوا، انتهت أعمارهم فانتقلوا، فوالله, لننتقلن كما انتقلوا.
ندموا على التفريط فسنندم.
تجرعوا كأس الموت فسنتجرع.
ذاقوا وحشة القبور فسنتبع.
توقفت عجلة أعمالهم فسنتوقف.
أخي القارئ .. أختي القارئة:
كأني وإياكم بلبن من طين تسقط لبنة من اليمين, وأخرى من الشمال، فلا نعلم متى سنسقط، فأعدوا للسؤال جوابًا, وللجواب صوابًا، واستغلوا اللحظات قبل إخراج الزفرات، والندم والآهات، وأكرموا أنفسكم بإحسان ضيافتها في شهركم: فيا ليت شعري من سيتم شهره ويقبل, ومن ستخطفه المنايا ويرحل، ومن سيتم ويرد فيخذل.
(اللهم, إنا نسألك القبول والسداد والهدى والرشاد، والاستعداد ليوم المعاد، اللهم, بلغنا شهرنا وتقبله منا، واغفر لنا وتجاوز عنا، واختم بالصالحات أعمالنا، أنت مولانا, فنعم المولى, ونعم النصير».
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
بقلم
إبراهيم بن عبد العزيز الجهني